دار السلام بغداد …
تناول الجزء الأول نشأة وتاريخ مدبنة المنصور بغداد والنقلة الكبيرة في تاريخ التصميم الحضري للمدينة المدورة والنهضة العلمية التي شهدتها المدينة في ذلك الزمان البعيد في عصر الدولة العباسية في القرن الميلادي الثامن، والذي جعل من دار السلام بغداد حاضرة الدنيا في العلم والأدب وموطن روادها، والمكانة التي احتلتها بغداد كنقطة تقاطع كونية ومركز للتجارة البحرية العالمية .
ويعرض الجزء الثاني مكانتها في عهد الدولة العباسية كحاضرة للعلم والأدب وحاضنة لبيت الحكمة واول جامعة في التاريخ (المدرسة المستنصرية) و للمذاهب الفقهية ومنارة ثقافية يقصدها كل باحث عن العلم والمعرفة، كما يعرض هذا الجزء لمحات حول دار السلام بغداد التراثية.
مقالات ذات صلة
مدن عربية | أريحا .. أقدم مدينة في العالم .. التي نشأت مع التاريخ
مدن عربية | الإسكندرية .. التي سبقت مدن المستقبل في العالم
مدن عربية | مدينة المنصور بغداد … حاضرة الدنيا .. وملتقى طرق العالم (1)
العراق أرض الحضارات (1) | أول من أقام دولة القانون.. واليوم..من الأكثر حاجة لها في العالم
العراق أرض الحضارات (2)|العهد الملكي.. دولة وطنية جامعة…في انتظار تجديد المسيرة
زها حديد| سيدة العمارة في العالم من العراق
سدود بلاد العرب | سدود العراق… أكبر وأهم سدود المشرق العربي (5)
جسور عربية | جسور المشرق العربي… القديم والحديث في جسور بلاد العرب (5)
متاحف عربية | متاحف الهلال الخصيب .. بوابة تطل على حضارات بلاد الرافدين والشام (8)
معالم حضرية عربية| برج ساعة الأعظمية…تجربة كاشفة لحضارة العراق
الخط العربي| دُرًةَ الفن الإسلامي.. الذي ولد في العراق
أهوار العراق | تراث إنساني عالمي لبلاد الرافدين أنقذته رحمة السماء في نهاية آذار
دار السلام بغداد : حاضرة العلم والأدب
كانت دار السلام بغداد، عاصمة الدولة العباسية وعاصمة الرشيد،حاضرة العالم، إذ كانت تحتضن أهم مراكز العلم على تنوعها وملتقى للعلماء والدارسين لعدة قرون من الزمن.
كانت بغداد عاصمة الدنيا والإسلام دون منازع، ومركزاً حضارياً وقبلة للثقافة في العالم، وموطناً للرواد من علماء الفلك والرياضيات والشعراء والموسيقيين والمؤرخين ورجال القانون والفلاسفة.
وقال عنها كثيرون ومنهم الامام محمد بن ادريس الشافعي ؛ من لم يرى بغداد، لم يرى الدنيا ولا الناس.
.وقال الشافعي أيضاً ؛ ما دخلت بلداً قط إلا عددته سفراً، ألا بغداد فإني حين دخلتها، عددتها وطناً
و قال عنها ياقوت الحموي في معجم البلدان؛ إنها حاضرة الدنيا، ومن لم يزر بغداد، فأنه لم يرى شيئآ.
وقال أبو إسحاق الزجاج ؛ بغداد حاضرة الدنيا، وما عداها برية.
اتسعت الإمبراطورية الإسلامية شرقاً وغرباً في عهد خامس الخلفاء هارون الرشيد وعاش العراق عصره الذهبي. وكان قصره مركزاً علمياً، وفي عهده ذهبت دار السلام بغداد مثلاً بين حواضر العالم، واجتذبت أشهر علماء الإسلام ومنهم الكندي والرازي والخوارزمي، والموسيقي زرياب، وانتشر الوراقون في بغداد وتحولت إلى مدينة للترجمة والتأليف في مجالات عديدة منها الطب والفلك والهندسة والرياضيات والكيمياء وسائر العلوم.
وتشتهر قصة الساعة المائية التي أهداها هارون الرشيد لشارلمان، امبراطور الفرنجة، وقد استخدمت الساعات في الدولة العباسية في تحديد أوقات الصلاة.
أنشأ الرشيد في عام ٨٤٠ م بيت الحكمة، وكانت مكتبة تضم الآلاف من الكتب، و مركزاً للترجمة والتأليف. ونواة أكبر جامعة في التاريخ، وقبلة العلماء وطالبي العلم.
كان من أعلام عهد الرشيد فيلسوف العرب يعقوب بن إسحاق الكندي، الذي ولد في مدينة الكوفة في العراق، وكان أبوه أميرًا على الكوفة في عصر خلافة المهدي والرشيد. وقد برع الكندي في الرياضيات والطب والكيمياء والموسيقى والفلك، وعلم النفس والمنطق، وأدخل الأرقام الهندية إلى الشرق الأوسط، وأسس الكندي مع جابر بن حيان صناعة زيوت العطور، وجمع بين روائح النباتات، وقال أبو بكر الرازي إن جابراً من أعلام العرب العباقرة وأول رائد للكيمياء.
عاش أشهر الموسيقيين العرب والمطرب الأسمر زرياب (وهو لقب يعود لإسم طائر الشحرور)، أبو الحسن علي بن نافع من الموصل وتلميذ إسحق الموصلي في عصر الخليفة هارون الرشيد وغنى له ، وكانت له إسهامات كبيرة في الموسيقى العربية والشرقية إذ جعل للعود وترا خامسا، ونقل مظاهر الحضارة الاسلامية والشرقية إلى الاندلس ومنها إلى أوروبا وللعالم، وإليه وللموصلي تعود شهرة العراقيين في العود حتى اليوم.
وقد انتقل زرياب الى القيروان في تونس ثم قرطبة وتوفي فيها، وأسس مدرسة لتعليم الموسيقى والغناء وأساليبها وقواعدها، وكان صاحب الفضل في ولادة الموشحات الأندلسية.
وجاء الخليفة المامون بعد الرشيد، وكان لديه رغبة شديدة في العلم، وكان يرعى مجالس العلماء كالرياضيين والفلكيين، ووضعت في عهده خريطة للعالم الإسلامي تسمح بتحديد القبلة، وتابع بنفسه العالم أبو عبد الله الخوارزمي الذي وضع الخريطة الأدق في عصره،
وقد ولى المأمون محمد الخوارزمي بيت الحكمة، الذي اشتمل على مكتبةً تعد من أعظم المكتبات منذ مكتبة الإسكندرية العظيمة.
وكان الخوارزمي أيقونة عصره ومن علماء الرياضيات المسلمين، وهو مؤسس علم الجبر والمثلثات المعروف بالخوارزميات، وقد أبتكر جدولا لحركة الشمس والقمر، وكان ذلك نقطة تحول في علم الفلك.
وشهدت بغداد في عصره نهضة حضارية وتقدما في مجالات العلوم، واخترع في عهده الاسطرلاب وعدد من الآلات التقنية الأخرى، وحاول العلماء قياس محيط الأرض ما يدل على الاعتراف بكرويتها وعلى تطور العلوم .
وذهب المأمون بعيداً في تقديره للعلوم، إذ كان يعطي المؤلفين والمترجمين أوزان كتبهم ذهباً. واختار لذلك أمهر المترجمين، و ترجمت في عهده الكتب اليونانية والهندية.
وتحولت اللغة العربية في عصره إلى لغة آداب وفلسفة. وكان يعقوب الكندي أشهر مُترجِمِي عصره، إذ كان مُلمَّا بالسريانية واليونانية، ومن علماء بيت الحكمة. ، وكانت مهمتهُ الرئيسة ترجمة الأعمال الفلسفية والمنطق اليوناني، وعمل على تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية القديمة، وكرس جهوده للتوفيق بينها وبين العلوم الإسلامية.
وكان من أشهر العلماء في تلك الفترة أبو بكر الرازي، وهو طبيبٌ وكيميائي وفيلسوف وعالم رياضيّاتٌّ وصفته سيغريد هونكه في كتابها شمس العرب تسطع على الغرب بأنه أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق. وقد وضع عشرات الكتب والمقالات في مختلف جوانب العلوم. ومن اهمها كتاب الحاوي في الطب، الذي ضمُّ المعارف الطبية منذ أيام الإغريق، وظل المرجع الطبي الرئيسي في أوروبا لمدة 400 عام بعد ذلك التاريخ . ومن كتبه الأدوية المفردة الذي يتضمن الوصف الدقيق لتشريح أعضاء الجسم، وهو أول من ابتكر خيوط الجراحة، وصنع المراهم، وله مؤلفات في الصيدلة ساهمت في تقدم علم العقاقير.
كان الخط الكوفي، أقدم الخطوط العربية الذي اعتُمِدَ في تدوين القران الكريم ونسب إلى الكوفة والتي أُنشأت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب في عام 638م وتطورت في العهد الأموي، ولذلك قيل أن الخط العربي وُلِد في العراق. كما تم تطوير انواع من الخطوط، ومنها الثلث والنسخ والريحاني والمحقق والرقعة بواسطة الخطاط محمد بن علي بن مقلة في بغداد أشهر خطاطي العصر العباسي .
دار السلام بغداد : بيت الحكمة
كان بيت الحكمة أول دار علمية اقيمت في بغداد في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، في أواخر القرن الثامن وشكلت علامة فارقة على الحضارة الإسلامية.
بدأ الإهتمام بالعلوم في عهد الخيلفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور ، حين بدات ترجمة الكتب في علوم الطب والهندسة والفلك والآداب، واحتفظ بها في خزائن للكتب في قصور الخلفاء حتى ضاقت عنها. وكان محمد إبراهيم الفزاري من بين المترجمين في بيت الحكمة (لاحقاً) للعلوم الفلكية والرياضية من المصادر الهندية إلى اللغة العربية ويوحنا بن ماسويه الذي عمل طبيبًا في بغداد، ويعود له الفضل في تطور العديد من العلوم في العالم الإسلامي في العصر العباسي الأول.
وعندما تولى الخليفة الخامس هارون الرشيد الحكم ، أخرج الكتب والمخطوطات من قصر الخلافة، لتكون مكتبة عامة مفتوحة أمام الدارسين والعلماء وطلاب العلم وسماها ببيت الحكمة، كما نقل إليها الكتب من مكتبات المدن التي يتم فتحها (عمورية وانقرة …).
جاءت تسمية بيت الحكمة في معنى الدار أو البيت الذي يستخدم لحفظ أو خزن الأشياء بصفة عامة، والحكمة هي الفلسفة بصفة خاصة. وكان مصطلح مخطوطات او كتب الفلسفة يشمل في حينه عددًا من العلوم مثل الرياضيات والفلك والفلسفة والمنطق والطب والطبيعة وغيرها.
كلف الخليفة مترجمين للكتب من الحضارات المختلفة وكان يجود عليهم، وتحول بيت الحكمة إلى مركز للبحث العلمي والترجمة والتأليف والنسخ والتجليد، وأصبح لبيت الحكمة دوائر علمية متنوعة لكل منها علماؤها ومترجموها ومشرفون يتولون شئونها المختلفة، ثم أصبح بيت الحكمة داراً للعلم تقام فيه الدروس لتعليم الطلاب وتمنح فيه الإجازات العلمية، وألحق به بعد ذلك مرصداً فلكياً هو مرصد الشماسية. واسهم بيت الحكمة في إدخال نظام جديد لتنظيم المكتبات وفق موضوع الكتاب.
كان بيت الحكمة علامة بارزة للعصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وقدم إسهامات كبيرة في مجالات الطب والهندسة والفلك، وشجع على تأسيس مراكز ومدارس علمية في دول العالم الإسلامي، فكانت مكتبة العزيز في القاهرة، ومكتبة الزهراء في قرطبة وفي الشام وخراسان وأذربيجان.
عاش بيت الحكمة عصره الذهبي في عهد المأمون الخليفة السابع، الذي أتجه لجلب الكتب اليونانية من بلاد الروم وترجمتها. وبرز في عهد المأمون أسماء كبيرة في حركة النهضة العلمية في علم الفلك والطب والفلسفة ترجمةً وتأليفاً.
ظل بيت الحكمة مركز إشعاع لما يقارب أربعة قرون، حتى سقطت بغداد على يد المغولي هولاكو في عام 656 هـ (1258م)، والذي تمكن من تدمير بيت الحكمة، وألقى بالكثير من كتبها في نهر دجلة، و قام الفلكي نصير الدين الطوسي بإنقاذ آلاف الكتب ونقلها إلى مرصد مراغة.
دار السلام بغداد : المدرسة المستنصرية
شيد الخليفة المستنصر بالله (منصور بن محمد الظاهر : 1226 – 1242م)، المدرسة المستنصرية في عام 1233م على ضفاف نهر دجلة في جهة الرصافة من بغداد بعد أكثر من ثلاثة قرون على إقامة بيت الحكمة. وتميزت المدرسة المستنصرية بدقة وإتقان تفاصيل المقرنصات والمنحوتات، وجاءت شاهداً على العمارة الإسلامية في القصر العباسي في بغداد.
احتل للعلماء مكانه كبيره في فترة حكم الخليفة المستنصر، وجعل من المدرسة مركزا علمياً وثقافياً هاماً، وأقدم جامعه إسلامية في التاريخ. وكانت تتوسط المدرسة نافورة كبيرة فيها ساعة المدرسة المستنصرية، التي تعلن أوقات الصلاة على مدار اليوم.
تألفت المدرسة من طابقين تضم عشرات الغرف، ومكتبة تضم اعداداً كبيرة من المجلدات والكتب النادرة في حينها. وكان العلماء والفقهاء يترددون عليها للإطلاع على كتب نادرة في مختلف مجالات العلوم والمعارف.
ضمت المدرسة خيرة الطلاب من المدارس المختلفة من أنحاء الدولة العباسية الذين كانوا يمضون ما يقارب 10 سنوات ويعملون في دواوين الدولة بعد إنهاء دراستهم.
درست المدرسة المستنصرية القديمة العلوم الدينية واللغة العربية وعلوم النحو (وفق مدرستي الكوفة والبصرة) والفلسفة والرياضيات والصيدلة والطب وعلم الصحة، وكانت تعتني بدراسة المذاهب الأربعة (الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي)، على يد أشهر العلماء في التاريخ الإسلامي، ولم يحصرها المستنصر بالله في مذهب واحد، وكان يدرس فيها علم الأصول والفروع وأحاديث الرسول.
ظل التدريس قائما في الجامعة المستنصرية مع فترات انقطاع، إذ دمر المغول مكتبة المدرسة المستنصرية القديمة في عام 1258 م، وإستهدف تيمورلنك علماء المدينة ومدارسها في عامي 1392 و 1400، وهجر بغداد عدد كبير من العلماء إلى مصر والشام وكانت تعاود نشاطها فيما بعد حتى أغلقت في عام 1638م. ورغم أن المغول لم يأتوا بأي حضارة، وعاثوا فساداً في العراق، لكن الحضارة الإسلامية كانت طاغية بحيث احتوتهم وجعلتهم مسلمين وأقاموا دولة إسلامية.
جدث والي بغداد داود باشا (آصف الزمان) في عام 1826 م عمارة المدرسة المستنصرية، وأنشأ المدرسة الآصفية في مرافق المدرسة المستنصرية.
وقد قامت دائرة الآثار بأعمال صيانة للمدرسة المستنصرية في عام 1940 ثم في عام 1960 .
دار السلام بغداد : .. حاضنة المذاهب الفقهية
كانت بغداد حاضنة للمذاهب الفقهية الإسلامية، ونموذجاً للتسامح الديني على مر تاريخها، وحتى العقدين الأخيرين.
وقد ولد الخليفة علي بن أبي طالب في مكة المكرمة في عام 599 م (23 عاماً قبل الهجرة) وهو زوج السيدة فاطمة إبنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، واشتهر بالعدل والحكمة في القضاء، وكان أحد كتاب القرآن واشتهر عنه كتاب نهج البلاغة الذي جمعه الشريف الرضي وضم حكم وأقوال علي بن أبي طالب.
و الخليفة علي بن ابي طالب هو رابع الخلفاء الراشدين بعد أبو بكر وعمر وعثمان الذين امتد حكم الدولة في عهدهم إلى شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق ومصر وشمال أفريقية، وبلاد فارس، وخراسان. وقد أطلق الخليفة علي أسماء الخلفاء الراشدين على ابناءه، وبعضها كان متكرراً، واطلق ابناءه الحسن والحسين أسماء ابو بكر وعمر على إبناءهم، وتزوجت إبنة الخليفة والسيدة فاطمة بنت الرسول، أم كلثوم من الخليفة عمر بن الخطاب، وكان هناك مصاهرات كثير بين أبناءهم مما يؤكد على قوة العلاقات التي ربطت جميع الخلفاء الراشدين والمويين من بعدهم.
وقد أسس سعد بن أبي وقاص مدينة الكوفة في عام 16 هـ (638م)، بعد معركة القادسية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وقد ازدهرت الكوفة في أيام الحكم الأموي. وقد اتخذ الخليفة علي بن ابي طالب من الكوفة في العراق في عام 35 هـ مركزاً لخلافته ، وتوفي في 40 هـ ودُفن في الكوفة، كما دفن فيها إبنه الإمام الحسين وأئمة آخرين.
ويعد اتباع المذهب الشيعي الخليفة علي بن أبي طالب هو أول أئمة الشيعة، الأمر الذي جعل العراق قبلة للشيعة من أنحاء العالم لوجود مراقد أهل البيت في النجف وكربلاء. ويقيم في العراق أكبر المرجعيات الشيعية في العالم، وتحتضن النجف أكبر جامعة علمية للشيعة وهي الحوزة العلمية.
وكان العراق حاضناً لثلاثة من الأئمة الأربعة للمذهب السني. فقد ولد أبو حنيفة النعمان بن ثابت في الكوفة إحدى مدن العراق الهامة في عام80 هـ، وهو أول الأئمة الأربعة عند أهل السنة وصاحب المذهب الحنفي في الفقه الإسلامي. وكان أبو حنيفة يعتمد في فقهه على القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.
وقد اختار الخليفة المنصور أبو حنيفة النعمان ليكون أحد المشرفين على بناء بغداد، وعندما انتهى البناء نقل مجالس علمه إليها، حتى توفي في عام ١٥٠ هـ ، ودُفن في مقبرة الخيزران في بغداد، وبني بجوار قبره جامع الإمام الأعظم عام 375 هـ وأصبح ضريحه في الأعظمية معلما ومزاراً بارزاً.
ولد الإمام مالك بن أنس في المدينة المنورة في عام 93 هـ وتوفي فيها في عام 179هـ. وهو ثاني الأئمة الأربعة، وصاحب المذهب المالكي في الفقه الإسلامي. وقد أثنى عليه محمد إدريس الشافعي وآخرين وقال؛ إذا ذُكر العلماء فمالك النجم، ومالك حجة الله على خلقه، وما بعد كتاب الله تعالى كتابٌ أكثرُ صواباً من كتاب الموطأ لمالك. والإمام مالك هو الوحيد الذي لم يعيش في العراق، ولكن الإمام الشافعي الذي عاش في بغداد لفترة ممتدة من حياته تتلمذ على يدي الإمام مالك.
ولد محمد بن إدريس الشافعيّ في غزة في 150 هـ، و هو ثالث الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي، انتقلت اسرته في طفولته إلى الحجاز حيث حيث تعلم القرآن في مكة، وتتلمذ في المدينة المنورة على الإمام مالك بن أنس.
وتنقل الشافعي بين بغداد ومكة قبل أن يستقر في مصر ويتوفى فيها في عام 204 هـ. سافر للمرة الأولى إلى بغداد سنة 184 هـ، والتحق بالقاضي محمد بن الحسن الشيباني لدراسة المذهب الحنفي، وبذلك اجتمع له فقه المذهب المالكي في الحجاز وفقه المذهب الحنفي في العراق.
عاد الشافعي إلى مكة وأخذ يُلقي دروسه في الحرم المكي، وسافر إلى بغداد قبلة العلماء مرة ثانية في عام 195 هـ، وقام بتأليف كتاب الرسالة الذي وضع به الأساسَ لعلم أصول الفقه، ثم سافر إلى مصر سنة 199 هـ و أخذ ينشر مذهبه الجديد،
ولد أحمد بن محمد بن حنبل في بغداد في عام 164هـ (780 م) وهو رابع الأئمة الأربعة، وصاحب المذهب الحنبلي في الفقه الإسلامي. وقد أثنى عليه الإمام الشافعي وآخرين بقوله “خرجتُ من بغداد وما خلَّفتُ بها أحداً أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل”، ويُعدُّ كتابه المسند من أشهر كتب الحديث وأوسعها، وتوفي في عام 241هـ .
دار السلام بغداد : المدينة التراثية
تضم دار السلام بغداد عددا كبيرا من المعالم الحضارية التاريخية والثقافية تشمل المباني والقصور التراثية ومنها القصر العباسي والمدرسة المستنصرية في منطقة باب المعظم على نهر دجلة ومجمع دار الخلافة العباسية في الرصافة.
وتضم بغداد عددا من المتاحف من أهمها المتحف الوطني الذي يضم أهم الآثار البابلية والعربية. وتعرض المتاحف العالمية الاثار العراقية أمام الزائرين من كل أنحاء العالم.
وتضم المقامات الدينية جامع الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان في مدينة الأعظمية في الرصافة، والعتبة الكاظمية التي تضم مقامي الإمام موسى الكاظم وحفيده محمد الجواد في مدينة الكاظمية في الكرخ. ويربط بينهما جسر الأئمة الذي تعود تسميته للمقامين.
وتضم بغداد عشرات المساجد ومن بينها المساجد القديمة جامع الخلفاء، في شارع الجمهورية في الرصافة في منطقة سوق الغزل قرب الشورجة، ومسجد الحيدرخانة الذي بناه الخليفة العباسي أحمد الناصر لدين الله في شارع الرشيد (حالياً)، والذي جري إعادة بناءه وصيانته على مر العصور، ويتفوق على مساجد بغداد من ناحية البناء الهندسية والمعمارية، وقام بجميع اعمال الخط المعاصرة فيه هاشم البغدادي.
وتضم دار السلام بغداد عشرات الكنائس ومن بينها كنيسة مريم العذراء (مسكنته)، في ساحة الميدان مقابل شارع الرشيد، وتُعتبر من أقدم كنائس المدينة ، إذ بنيت في القرن السابع عشر على أرض منحت للطائفة الأرمنية من السلطان العثماني مراد الرابع، وتقع كذلك كنيسة تريزا المبنية في عام 1932 م على الطراز القوطي في منطقة السنك في شارع الرشيد.
وتضم بغداد الحضرة القادرية التي تضم ضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني (الكيلاني) في منطقة باب الشيخ وقرب ساحة الكيلاني (نسبة للشيخ الجيلاني) فيى الرصافة . وكانت الحضرة القادرية بداية مدرسة قام بالتدريس فيها الشيخ الجيلاني ودفن فيها، وتعد أحد أهم معالم بغداد التاريخية والحضارية، وتضم مسجداً وضريحاً ومكتبة تسمى المكتبة القادرية.
وتشتهر بغداد بشوارع تراثية، وكان شارع الرشيد أحد أقدم وأشهر شوارع بغداد ، إذ قام بشقه الحاكم العثماني (خليل باشا)، بهدف توسيع وتعديل الطريق العام الممتد من الباب الشرقي إلى باب المعظم وجعله شارعاً باسمهِ عام 1910م. وقد تميز بالأناقة وجاءت عمارة واجهات بعض مبانيه بأعمدة مسقوفة لحماية رواد الشارع من شمس بغداد الحارة، وليوصل أبواب بغداد القديمة ببعضها .
وقد أعيد تسمية الشارع في العهد الملكي بشارع الرشيد وبات أيقونة عراقية، على غرار الشوارع المميزة للعواصم الكبرى مثل شارع الشانزليزيه في باريس وشارع اكسفورد في لندن وشارع وول سترت في نيويورك وشارع 26 يوليو في القاهرة، إذ يضم مكاتب حكومية ومحلات تجارية وبنوك وأسواق قديمة مثل سوق هرج، وسوق السراي ومساجد تراثية مثل مسجد الحيدرخانة الذي شيد عام 1819م، ومساجد مرجان وسيد سلطان علي و حسين باشا.
ويقع شارع المتنبي في وسط بغداد، قرب من منطقة الميدان وهو متفرع من شارع الرشيد. ويعتبر شارع العلم والأدب، وسوقاً ثقافية حيث تزدهر فيه تجارة الكتب القديمة والحديثة بمختلف أنواعها ومجالاتها وينشط عادة في يوم الجمعة. ويضم الشارع مطبعة تعود إلى القرن التاسع عشر، وعدد من المكتبات، ومباني قديمة، ومراكز ثقافية ومقهى الشابندر الذي يعد من معالم بغداد العريقة وكان حاضنة للشعراء وللمقام العراقي، وهو الغناء المحلي الذي يعبر البيئة العراقية.
وقد اتسمت الأبنية في عهد الدولة العباسية بطابع الشناشيل، والتي تعد من معالم العمارة والثقافة في شارع الرشيد واحياء بغداد القديمة وتشتهر كثيرا في البصرة ومدن اخرى، وترد بشكل واسع في الصور واللوحات التشكيلية كما ترد في الروايات والقصائد. والشناشيل هي شرفات خشبية بارزة وبزخارف هندسية تعمل على ابراز واجهة الطابق العلوي وتطل على الأزقة والشوارع بما يسمح للسكان بمشاهدة ما يدور فيها، دون أن يظهروا لمن هم في الخارج، كما تسمح بالتقارب بين سكان بيوت الشناشيل حول الأزقة. وتجمع المباني الحديثة في بغداد المبنية من الطابوق (الطوب الأحمر) ملامح العمارة الأوروبية و الإرث الإسلامي العباسي والعثماني.
وقد نشا في العراق عدد كبير من اعلام الشعر العرب في العصر العباسي ومنهم ابو الطيب المتنبي وصفي الدين الحلي. وقد انتهت الدولة العثمانية مع احتلال العراق في بدايات القرن العشرين من قبل بريطانيا عام ١٩١٧ وظهرت الحركة التحررية القومية العربية، وكان للشاعر الكبير معروف الرصافي دور ملهم للكثيرين، ومازال تمثاله أحد معالم بغداد الخالدة .
وقد نشا في العراق عدد كبير من اعلام الشعر العرب في العصر الحديث وكان منهم جميل الزهاوي ومحمد مهدي الجواهري ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي واحمد مطر.
وقد خضع العراق للخلافة العثمانية في عام 1630 م، وقيل الكثير في عهد الخلاف العثمانية، غير أن العراق شهد في ذلك العهد حركة عمرانية كبيرة، ويعتبر مبنى القشلة، (وكانت تضم المدرسة الموفقية) وهو ثكنةً للجند ومقرّ الإقامة الشتوي في شارع المتنبي، ويضم مقر السراي لإدارة الدولة العثمانية. ومبنى القشلة هو برج الساعة الذي لا يزال قائماً على نهر دجلة حتى اليوم في شارع المتنبي . وترك العثمانيون خلال خمسة قرون آثرهم العميق على العادات واللغة والمأكل.
وتضم بغداد عددا من التماثيل التاريخية والثقافية وأبراج الساعات ، ومنها تماثيل (نصب) تاريخية من اهمها تمثال ابو جعفر المنصور باني بغداد، وتمثال حمورابي وتماثيل للشعراء المتنبي والرصافي وتماثيل لقادة معاصرين من بناة الدولة الوطنية تضم نصب الملك فيصل الأول مؤسس العهد الوطني ورئيس وزراءه عبد المحسن السعدون. وهناك تماثيل ثراثية تضم تمثال كهرمانة وجرارها الأربعين وتمثال مصباح علاء الدين وتمثال شهريار وشهرزاد وتمثال أبي نواس.
وتشتهر بغداد المعاصرة بمعالم سياحيّة تضم جزيرة بغداد و بحيرة الجادريّة و أسواق يعود بعضها إلى العهد العباسي؛ وتضم سوق شارع النهر قرب المدرسة المستنصرية لبيع السجاد والملابس والذهب، ويقع كثير من الأسواق في شارع الرشيد أو شوارع متفرعة منه وتضم أسواق الهرج والسراي والصفارين والبزازين والشورجة و العربي و الغزل قرب جامع الخلفاء وسوق الكتب في شارع المتنبي.
وقد تعرضت معالم دار السلام بغداد التراثية، كما جميع مدن العراق، لهجمات المغول الجدد من العصابات الإرهابية المسلحة من كل المذاهب، والتي كانت ولا تزال ترفع السلاح في وجه الدولة الوطنية، مما أدى لنهب المتاحف وتدمير العديد من المعالم من مكتبات ومطابع ومباني أثرية مثل المكتبة العصرية التي تأسست في عام 1908 ، ومقهى الشابندر في شارع المتبني الذي يعد من معالم بغداد العريقة .
ولكن العراق بعمقه الحضاري الضارب في التاريخ سينهض ويتخلص من هذه العصابات إلى اية جهة انتمت، ويعيد بناء الدولة الوطنية الجامعة.. وسيعود العراق يوماً غير بعيد منارة للأمم بما يملك من إرث حضاري وإنساني عريق.
المصادر