ليبيا (2) | صفحات من تاريخ العهد الملكي الوطني في ليبيا (51 – 1969)

قصر الزهور الذي اصبح مكتبة إدريس الأول

العهد الملكي الوطني في ليبيا : تقدمة

يتناول الجزء الثاني من هذه المقالة إنجازات العهد الملكي الدستوري في ليبيا، بدءاً من استعراض الحالة لما قبل هذا العهد والتطور الإقتصادي الذي شهدته ليبيا خلال الفترة القصيرة جداً لهذ الحكم، والحياة البرلمانية، رغم النقائص التي شهدتها ، والتي أسهمت في وضع بذور الديموقراطية، ومشاريع التعليم والمرافق العامة والإسكان، ودولة القانون والحاكمية الرشيدة التي سادت ليبيا الملكية، والسمات التي تحلى بها الملك الصالح والزاهد إدريس الأول، وعثرات وإخفاقات العهد الملكي الوطني في ليبيا من وجهة نظر المحبين والمؤيدين لهذا العهد.

ولا تأتي هذه المقالة دفاعاً عن الملكية في ليبيا … وإنما دفاعاً عن دولة المؤسسات التي اسست للدولة الليبية الوطنية الجامعة، على أمل أن ترقى الحوارات الجارية بين الليبيين في نهايات عام 2020 إلى مستوى المسؤولية، لمعاودة المسيرة والتاسيس للجمهورية الثانية في ليبيا على مبادئ الحاكمية الرشيدة؛ دولة القانون والشفافية والمساءلة.


مقالات ذات صلة

ليبيا (1) | صفحات من تاريخ العهد الوطني في ليبيا (51 – 1969)

ليبيا : مؤشرات في التنمية الإجتماعية والإقتصادية لعام 2019

تونس وليبيا | المساكن الحفرية في مطماطة وفي غريان

معالم طبيعية| واحات أوباري في الصحراء الليبية


العهد الملكي الوطني في ليبيا : إنجازات العهد الملكي الدستوري

 ما قبل العهد الملكي الوطني في ليبيا

ذكرت تقارير للأم المتحدة في عام 1951 ان المدارس الإبتدائية كانت متوفرة في المدن والمراكز الرئيسية، وكان هناك ثلاثة مدارس ثانوية للذكور، وواحدة للإناث، وكان هناك 14 رجلاً يحملون شهادات جامعية.

ونشرت مجلة تايم بعد أسبوع من استقلال ليبيا في عام 1951 تقريراً حول الدولة الوليدة، رسم صورة مأساوية للأوضاع في ليبيا كنموذج للعالم العربي المريض، وللدولة التي ولدت في الفقر وسادها الجهل وسكنها أكثر بقليل من مليون نسمة. 

كانت الغالبية الكبرى من الليبيين تسكن في خيام أو أكواخ، وكانت الأمراض والأوبئة تحصد أرواح الآلاف منهم سنوياً، وكانت نسبة بسيطة جداً منهم تسكن في بيوت، والتي لم تنجو هي الأخرى (في إقليم برقة) من آثار الغارات الجوية للحرب العالمية الثانية. 

وذكر التقرير أنه لا يوجد كليات جامعية في ليبيا، وفيها 16 خريج جامعي، ويستطيع ربع سكانها كتابة أسمائهم. وكان لدى ليبيا ثلاثة محامين، ولا يوجد طبيب أو صيدلي. وكان الأطفال مصابين بفقر الدم، وتنتشر فيها أمراض العيون، حتى أن عُشر السكان مصابون بالعمى.

وكان لا يوجد في ليبيا مهندس أو مساح، ولا وسائل اتصال بين الأقاليم،  إذ ليس هناك خطوط هاتف او تلغراف او اتصالات راديو.  وحتى يتمكن الملك من تسجيل خطابه لاعلان الاستقلال، احتاج إلى فريق من الفنيين بالجيش الامريكي لتسجيل خطابه في مكتبه الذي يتصدر حائطه معلقات الخناجر، ولإعادة قراءة خطابه اربعة مرات، وسعد الملك كثيراً عندما أمكن أخيراً بث التسجيل. وتمت استعارة مدفع هاوتزر أمريكي لإطلاق 101 طلقة تحية للدولة المستقلة، وأمكن العثور على مواطن تركي يعرف كيفية إطلاقها.

محطة القطار في بنغازي

ولا تتوفر وسائل مواصلات بين الأقاليم  سوى قاطرة بخارية واحدة وقاطرتا ديزل وقليل من عربات النقل المهترئة تسير على سكة الحديدية تبلغ  320 كم التي أقامها الإيطاليون خلال الفترة 14-1927، بين أجزاء في ولاية برقة، وأجزاء في ولاية طرابلس، ولكن ليس بين الولايتين.  وقد أصيبت شبكة السكك الحديدية الليبية بأضرار خلال الحرب العالمية الثانية. ولذلك، احتاج  وزراء الحكومة إلى استعارة طائرة للأمم المتحدة للإنتقال بين العاصمتين طرابلس وبنغازي في إطار استعدادات الحكومة لإعلان الاستقلال.

كان 80% من السكان مزارعين أو رعاة رحل، وكان نصيب الفرد من الدخل القومي 35 دولارًا سنويًا ، وهو (مع اليمن) الأدنى بين جميع الدول العربية. كان الإيطاليون المستوطنون قد غادروا ليبيا باستثناء قرابة 50 ألفا لا يزالون يحتلون أفضل الوظائف، ويمتلكون أفضل المزارع ، ويديرون أفضل الأعمال. ووفق تقرير التايم، فإن مسحاً قام به فريق تابع للأمم المتحدة توصل إلى ان الدولة تكاد أن لا تكون قادرة على توفير نظام غذائي مناسب لشعبها.

تلك كانت الحالة الكارثية المفجعة التي كانت عليها المملكة الليبية عند تقلد الملك إدريس سلطة حكم ليبيا في عام 1951. ولكن رغم شحة الموارد المالية لثلثي فترة الحكم قبل بدأ تدفق عائدات النفط المكتشف، تقدمت ليبيا بخطوات كبيرة خلال ما تبقى من العهد الملكي الوطني في ليبيا (1964-1969).

 العهد الملكي الوطني في ليبيا : التطور الإقتصادي

تراوحت ميزانيات الحكومة في ليبيا بين 8 – 13 مليون جنيه استرليني بين عامي 1956 و 1960. وقد وافقت الحكومة على منح الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تسهيلات عسكرية ومدنية في ليبيا بعد الاستقلال.  وشكلت المساهمة البريطانية (6 ملايين دولار: 4.5 مليون جنيه)  والأميركية (مليون دولار : 750 الف جنيه، مقابل خدمات قاعدة ويلس الجوية، وهي مطار معيتيقة حالياً) والفرنسية (نصف مليون دولار : 375 ألف جنيه مقابل خدمات في مطار فزان) مقابل القواعد والتسهيلات في أراضي ليبيا ذات الأهمية الإستراتيجية. وشكلت هذه المساهمات النسبة الأكبر من ميزانية الحكومة التي لم يكن لديها أية أيرادات تعتمد عليها.

استخدمت المعونات الخارجيّة في تسيير شئون الدولة الوليدة وإقامة  البنيّة التحتيّة، وتطوير خدمات التعليم والصحة. وعملت الحكومات على على جلب الشركات للتنقيب عن النفط،  دون إعطاءها إمتيازات للتنقيب. ووضع قانون خاص بالنفط في عام 1955م. 

اكتشفت احتياطيات نفطية كبيرة في كل من طرابلس وبرقة في عام 1959 وشُرع في تصدير النفط الخام في عام 1961م. وفي عام 1961، افتتح الملك إدريس خط أنابيب بطول 104 أميال يربط حقول النفط المهمة في زليطن بأول ميناء لتصدير النفط في مرسى البريقة ​​ في الداخل بالبحر الأبيض المتوسط، وصدر طابع تكاري بهذه المناسبة. وبدأت بعد ذلك (في عام 1964) مباشرة إيرادات النفط تتدفق على الخزانة الليبيّة.

أدخلت شركات البترول العاملة في مجال التنقيب في الخمسينات تحولات كبيرة في إقتصاد البلاد، من خلال تعزيز حركة السوق والمصارف، وتأسيس شركات ليبيّة محليّة لتلبيّة احتياجات شركات التنقيب في مجالات من بينها مقاولات البناء و متعهدي تموين الأغذية . كما اسهمت في توفير أكثر من 11 الف فرصة عمل مباشرة او  في الأعمال التي كانت تخدم شركات التنقيب.

استغنت ليبيا عن الإعتماد على المساعدات الدولية وعلى عوائد إيجار القواعد الجوية الأمريكية والبريطانية. وبدأت مفاوضات مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكيّة، وإجراءات تصفيّة قاعدة هويلس الأمريكيّة (معيتيقة فيما بعد)، واتفق في عام 1965 على القيام بإجلاء تدريجي لقواتها.

اصبحت ليبيا نظام ملكي بموارد نفطية كبيرة. ووظّفَ الجزء الأكبر من إجمالي عائداته  (3 مليار دولار) في تنفيذ خطط وبرامج تنميّة إقتصاديّة وإجتماعيّة للبلاد. وتبع هذا الاكتشاف توسع هائل في جميع الخدمات الحكومية، ومشاريع البناء ، وارتفاع مماثل في المستوى الاقتصادي وتكلفة المعيشة.

عمدت الحكومة في عام 1960م إلى دعوة البنك الدولي لدراسة وضع ليبيا الإقتصادي وتقديم ما يراه من توصيات بشأنه. وتلى ذلك إنشاء مجلس الأعمار (في تكرار لما حدث في العراق في العهد الملكي) الذي وضع الخطة الخمسيّة للتنميّة ( 1963م – 1969م) في مجالات هامة ضمت التعليم والأشغال العامّة والزراعة. وقامت الخطة على أساس تخصيص 70% من عائدات البترول المستقبلية، مما يرفع من قيمة الإنفاق على مشاريع التنميّة وفق صادرات النفط.

وارتفع معدل الدخل خلال الفترة  1962 – 1969، بمعدل سنوي 17٪ من 120 إلى 370 دينارًا ليبيًا في نفس الفترة بأسعار 1964 الثابتة.

وتجب الإشارة إلى أن ميزانية ليبيا كانت لا تزال محدودة وبلغت 345 مليون جنيه في العام المالي 68 – 1969 ، ووصفت في حينها بأنها أضخم ميزانية في تاريخ ليبيا الحديث.

إنجازات العهد الوطني

 العهد الملكي الوطني في ليبيا : الحياة البرلمانية وبذور الديموقراطية

شهد العهد الملكي الوطني في ليبيا تجربة ديمقراطية واعدة وانتخابات برلمانية  دورية في مواعيدها وفقاً لما نصّ عليه الدستور. وكان هناك انتخابات عامة لانتخاب 55 نائباُ في مجلس النواب (نائباً لكل 20 الف من السكان وفق  مادة 101 من الدستور) خلال السنوات 1952 و 1956 و 1960 و 1964م (وقد أعيد إجراء الانتخابات الأخيرة في عام 1965 بعد أنّ ثبت وقوع تزوير واسع في نتائجها). وقد جرى فض آخر دورة عادية لمجلس الأمّة الليبي في عام 1969 حيث كان مقرّراً أنّ تعقد الانتخابات التالية في أوائل عام 1970 .

ورغم غياب الأحزاب السياسية،  والسلبيات التي شابت الحياة البرلمانية ، فقد أسهمت هذه الحياة في زراعة بذور الديموقراطية في ليبيا وكانت نقلة نوعية كبيرة من الحالة الماساوية التي بدأت بها المملكة الليبية في عام 1951 كما وصفها تقرير مجلة التايم.

 العهد الملكي الوطني في ليبيا : الإسكان والمرافق العامة

كان من مشاريع  التنميّة في الخطة الخمسية مشروع إدريس للإسكان، وكان القصد منه إنشاء مساكن مناسبة مزودة بالمياه والكهرباء والمجاري عوضاُ عن الأكواخ المزرية التي كانت قائمة على أطراف المدن كمأوى لنحو 20% من السكان.

وفي ضوء الدراسات السكانية قررت الحكومة في عام 1965 تخصيص أكثر من 530 مليون دولار لخطة الإسكان (أكثر من 20% من إيرادات النفط خلال فترة الخطة ) والإعلان عن مشروع لبناء 100 الف وحدة سكنية ، واستحدثت وزارة للإسكان والأملاك الحكومية، وشرعت في تنفيذ خطة الإسكان. وكان من إنجازات القطاع العام في العهد الملكي الوطني في ليبيا خلال فترة الخطة  (63-1969) 15 الف مسكن،  ويشكل مشروع مدينة المرج أحد مشاريع الإسكان الذي انجز في عام 1970 والتي دمرت بفعل زلزال في عام 1963. ولكن الحكومة لم تتمكن مشاريعها الإسكانية الكبيرة بسبب أحداث سبتمبر 1969، التي غيبت الدولة الليبية.

وشملت الخطة الخمسية شبكة من الطرق على طول معظم الشريط الساحلي الممتد إلى مسافة 1200 ميل من الحدود التونسيّة إلى الحدود المصريّة، وتم إنجاز 4 آلاف كم  من الطرق الرئيسية والفرعية.  وشملت الخطة الخمسية بناء محطات جديدة للكهرباء في كل من طرابلس وبنغازي، وارتفع انتاج الطاقة الكهربائية من حوالي٣٠ ألف كيلو واط ساعة إلى أكثر من حوالي 230 ألف كيلو ، وتم بناء النوادي والملاعب الرياضية وعشرات المباني التجارية.

كما  بدأ  في العهد الوطني تشييد جسر وادي الكوف بمدينة البيضاء الليبية في العام 1965 ، وانتهى في عام 1971.

جسر وادي الكوف

العهد الملكي الوطني في ليبيا : التعليم

استهدفت برامج التنمية تطوير المرافق التعليميّة. وقد ارتفع عدد طلاب المدارس إلى اكثر من 400 الف طالب بداية السبعينات، وانتشرت المدارس الإبتدائية في أنحاء البلاد، وحتى النائية منهـا وأصبح هناك أكثر من 5 آلاف خريج جامعي عند نهاية الخطة الخمسية الأولى.

و تم إنشاء جامعة في بنغازي (جامعة قاريونس فيما بعد)، وكليّة لتأهيل المعلمين في ليبيا  في مجالات العلوم والرياضيات واللغات، وكلية مهنية لليميكانيك والكهرباء والهندسة والصناعات الغذائية لتوفير كوادر فنية مختصة.

وقد تبنت ليبيا سياسة استقطاب أفضل العقول العربية للتدريس في مجالات الإختصاص المختلفة (وللعمل في مجالات القضاء والإقتصاد ) وأساتذة من دول تتحدث الإنكليزية لقسم اللغة الإنجليزيّة، ومن بينهم القانوني عبد الرزاق السنهوري والإقتصادي محَمّد العريان والفلسفي عبدالرحمن بدوي ورجل الأدب عبدالقادر القط .

وكانت ليبيا أوّل دولة إسلاميّة تمنح المرأة حق التصويت في الإنتخابات النيابيّة وفقاً للشروط التي يضعها القانون (مادة 102 في دستور 1951)، وتليها لبنان (1952) وسويا (1953) ومصر والصومال وجزر القمر (1956) وتونس (1957)، وموريتانيا (1961)والجزائر (1962)والمغرب (1963). وقد صدر قانون في ليبيا في عام 1963 (بموجب المادة 102) منح المراة حقوق المشاركة في كافة جوانب الحياة وعلى رأسها حق التصويت في الانتخابات النيابية.

كما أتيحت للمرأة الليبيّة في عهد الملك إدريس السنوسي أعلى مستويات التعليم، ففتحت أمامها أبواب الجامعات في بنغازي وطرابلس لتتلقي العلم على قدم المساواة مع الرجل (مواد 28- 30 في دستور 1951).

وشهد  العهد الوطني في ليبيا  صدور أكثر من 30 صحيفة ومجلة مستقلة وأربعة صحف حكومية (صُحف ليبيا الحديثة، برقة الجديدة، فزان، وطرابلس الغرب)، وكانت تتمتع بسقف عال من الحرية، ولا تخضع لأي رقابة . وكان هناك مراكز وادبية وثقافية تنظم حوارات فكريّة وثقافية وسياسيّة، كان من أبرزها المركز الثقافي العربي والنادي الثقافي الليبي وجمعية الفكر الليبي .

العهد الملكي الوطني في ليبيا : دولة القانون والحاكمية الرشيدة

منع الدستور أعضاء البيت المالك أنّ يكونوا أعضاء في مجلس النواب (مادة 103)، وليس لهم حق الترشح، وإنّ كان لهم حقالإنتخاب، وقد نظم قانون الانتخابات لمجلس الأمّة الاتحادي رقم (5) لسنة 1951مموضوع الترشيح لعضويّة المجلس النيابي.

حظر الدستور لأيّ عضو في الأسرةِ المالكةِ أن يتقلد أيّ منصب وزاري (مادة 82).

طبق العهد الملكي الوطني في ليبيا مبادىء الحاكمية الرشيدة؛ المؤسسية والشفافية في إدارة الأموال العامة. وكانت جميع جوانب إنفاق المال العام تجري وفق القواعد والقنوات المقررة في الأنظمة والقوانين (مادة 162). وكانت جميع إيرادات الدولة وعائدات ليبيا من النفط تقيد في الخزانة العامّة للدولة (مادة 172)، وكان التصرّف فيها يجري حصرأً بموجب قوانين تصدرها السلطات التشريعية، وهي مجلسيْ البرلمان والشيوخ، والمجالس التشريعية.  

الشريف محى الدين السنوسى فى زنزانته بسجن بنغازى

وجعل الملك إدريس مواطني ليبيا سواسية امام تطبيق القانون. وعندما قام الشريف محي الدين السنوسي في عام 1954 (وكان عمره 18 سنة) حفيد عم الملك السيد أحمد الشريف ، وإبن أخ  زوجة الملك فاطمة ، بإغتيال إبراهيم الشلحي ناظر الخاصة الملكية،  جرت محاكمته والحكم عليه بالإعدام من باب القصاص الشرعي.  ورفض الملك جميع طلبات العفو عن الجاني أو تخفيف الحكم وتم تنفيذ الإعدام، مع أنّ مراسيم العفو الملكي لم تترك سجيناً واحداً منهم يكمل مدة عقوبته في السجن ولم تسجل حالة إعدام سياسي واحدة.

أصدرت المحكمة الدستورية في عام 1954 قرارا ببطلان المرسوم الملكي القاضي بحل المجلس التشريعي ولاية طرابلس، فما كان من الملك إلا أن التزم بقرار المحكمة وتراجع عن قراره.

شهدت العهد الملكي الوطني في ليبيا احترام حقوق الإنسان ، ولم يجري تشكيل أيّة محكمةٍ استثنائية مدنية أو عسكريّة، ولم يجرِي اعتقال أو احتجاز أي مواطنٍ عن غير طريق النيابة ، أو تعذيب أيّ معتقل أو سجين، واقتصر عدد الذين تمّ اعتقالهم او احتجازهم  أو التحقيق معهم بأذن من النيابة العامّة في العهد الملكي الوطني في ليبيا على قرابة أربعمائة شخصاً .

العهد الملكي الوطني في ليبيا : الملك الصالح والزاهد

بدأ الملك إدريس عهد مملكته بإلغاء لقب صاحب الجلالة، قائلاً،  إنّ الجلالة للهعز وجل.  

أصدرّ قانون لتنظيم الأسرة ‏المالكة، لا يعترف بوجود عائلةمالكة ولا وجود أمراء من الأسرة السنوسية، ‏وأطلق على زوجته لقب زوجةالملك، ورفض تغيير أسم المملكة إلى المملكة السنوسيّة. وأبعد الملك العائلة السنوسيّة عن الحكم ، فاستثناهم من شغل المناصب الرسميّة في الدولة، والترشح لعضويّة البرلمان (مادتي 82 و 103)، ومنع أنّ يطلق لقب أمير على أيّ فرد من أفراد العائلة السنوسيّة لمنع استغلال صلتهم به لكسب النفوذ والقوة. 

وكان الملك يرفض إحاطة منزله بنقاط تفتيش وحراسة مسلحة، لثقته الكبيرة بالشّعب الليبي ولا يتخذ أية إجراءات لحمايّة أمنه الشخصي..).  وكان شديد الترفع عن ماديات الحياة ومظاهر الأبهة والبرتوكولات الملكية، وخطاباته قصيرة لا تزيد عن خمس عشرة دقيقة، ويرفض مرافقه حراسة مسلحة سواء في جولاته داخل ليبيا أو في زياراته خارج البلاد. وكان يرفض أنّ يرافقه في زياراته العائليّة شخص غير سائقه الخاص.   

رفض أنّ ‏يطلق اسمه على أي من شوارع مدن ليبيا ،وأزال صورته من طبعات أوراق ‏النقد التالية وطوابع البريد بعد أنّ علم بوضعها دون موافقته، ‏بعد الاستقلال.

شيد في عهد الإحتلال الايطالي  عدة قصور، وكان قصر المنار في مدينة بنغازي مقراً سكنياً للحاكم الإيطالي العام.  وكانيجري إعدادها لتكون قصور اً ملكية بعد الاستقلال. غير أن الملك إدريس تنازل عن حق استخدامها.

وقد استخدم قصر الزهور في عام 1956 لافتتاح الدورة البرلمانية الثانية، وقد تم تخصيصه  لأغراض تعليمية.، وبعد عام 2011 ، أصبح مكتبة إدريس الأول.  وخصص قصر المنار في بنغازي مقراً لإدارة  شؤون الإمارة، ثم خصص كنواة لمبانى الجامعة الليبية للإسراع بإجراءات تاسيسها،  وخصص قصر الغدير ليكون مقرا للكلية العسكرية الملكية.

قصر الخلد

وبالمثل، فإن قصر الخلد الذي بناه  الايطاليون في طرابلس ليكون مقرا للحاكم العسكري العام لليبيا ، استخدم بعد الاستقلال كمكاتب ادارية تابعة للديوان الملكي، ولم يستخدمه الملك كمقر لإقامته. و تم تحويله الى متحف ليبيا فيما بعد.

كان التواضع والبساطة والأدب الجم من سمات الملك إدريس، واختار أن يقيم في بيت متواضع للسكن، يحتوي على ثلاث غرف للنوم، ويسمى باب الزيتون، ويضم خيولاً وجواميس.  وظل منزله ومكتبه بسيطة الأثاث حتى غادر حكم ليبيا. 

وعندما التقاه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الملك إدريس عندما أقام في  مصر نهاية عام 1969م، ذكر له ان من زاروا مكان إقامتة في ليبيا وجدوا أن منزله غايّة في البساطة، وفي مستوى موظف حكومي بدرجة ثالثة في القاهرة.  وقد أجابه الملك أنه لم يكن طامحاً في أي يومِ بالسلطة ولا متمسكاً بها ، وأنه حاول الإستقالة مراراٌ، وانه لا يشعر بالحزن على فقدان تيجان الملكيّة التي لم تبهره طوال حياته. ولم يسمح الملك طوال إقامته في مصر بإجراء اي حوار إعلامي معه.  

الملك الزاهد

وقد ذكر دي كاندول صديق  الأمير إدريس أنه كان يسكن في بيت صغير قبل عام 1950، وكان يستقبله عندما كان يزوره في غرفة صغيرة قليلة الأثاث.   

وكانت النزاهة والإبتعاد عن الفساد من سمات الملك. وعندما نشرت صحيفة ليبية في عام 1960م تقريراً حول الفساد الإداري والماليّ في مشروع طريق فزان، في عطاء منحته الحكومة لشركة مملوكة لعضو من العائلة السنوسية،  قرر الملك أحالة القضيّة للتحقيق. وكان من نتيجتها  منع عضو العائلة السنوسية من الدخول في أيّ مناقصات حكوميّة، وإقالة الحكومة.

كان الملك إدريس وفياً لرفاقه الشهداء وأسرهم، ولكل من خدم ليبيا.  وقد أقيم ضريح للشيخ عمر المختار وسط مدينة بنغازي، وأطلق على شيخ الشهداء.  وأصبح ضريح عمر المختار  منذ عام 1959 م مزاراً رسمياً لكبار زوار ليبيا ، ولم يفعل اي شي مشابه،  لقبر جده السيد محمد بن على السنوىسى مؤسس الحركة السنوسية أو والده المهدي. ولكن النظام الليبي الحاكم في عام 1980 هدم الضريح ونقل رفات عمر المختار إلى بلدة سلوق قرب بنغازي، ولم يعد يحظى بأي رعاية حكومية.

اطلق إسم أدريان بلت على احد أهم شوارع مدينة بنغازي لدوره في تنظيم مراحل إعداد الدستور لتأسيس دولة ليبيا . كما أطلق اسم هايتي على شارع كبيرفي بنغازي لأن قرار الأمم المتحدة باستقلال ليبيا جاء بأغلبية صوت واحد في الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة سنة 1949، وكان صوت جمهوريّة هايتي.  

ضريح شيخ الشهداء عمر المختار في بنغازي

كان من سمات الملك الراحل طهارته الماليّة والأخلاقيّة. وقد كان الملك وزوجته في تركيا عند عزله من الحكم. وتحملت الحكومة التركية نفقات الإقامة في الفندق ، ونقلته إلى فندق في اليونان وهم شبه معدمين، وتحملت الحكومة اليونانية نفقات إقامتهما لمدة شهرين. وقد أعاد الملك الأموال الحكوميّة التي بحوزته إلى وزارة الماليّة الليبيّة، كما أعاد السيارتين الرسميتين اللتين كانتا معه عبر الشحن البحري إلى ليبيا. وقد عرض الرئيس جمال عبدالناصر على الملك،  استضافتة وعائلته في مصر. 

ووصل الملك إدريس وزوجته إلى  ميناءِ الإسكندريّةِ ومعهما أربع  حقائب سفر. وخصص لهم الرئيس الراحل عبدالناصر قصراً حكوميا في القاهرة، وطاقما من العاملين لخدمة الملك وحراسته، وتلبية كافة احتياجاته، بما في ذلك الملابس الشخصيّة الشتوية التي لم يكن يملكها. وأهدته المملكة العربية السعوديّة سيارة خاصّة عوضاً عن تلك التي كانت بخدمته في ليبيا.  وعندما تولي الرئيس الراحل أنور السَّادَات الحكم ، واصل تكريم ورعاية الملك إدريس طوال حياته، وكذلك في عهد الرئيس الراحل محَمّد حسني مبارك حتى وافى الأجل الملك إدريس في عام 1983. وانتقلت زوجته إلى شقة خاصة في القاهرة  حتى وفاتها عام 2009. 

لم تكن للملك أية مدخرات أو أرصدة مالية وأموال. وعندما سأل الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الملك بعد أيام من وصوله إلى القاهرة، إن كان لديه أيّ أموال أو ممتلكات في ليبيا ، وأنه على استعداد لردها. وكان رد الملك بالنفي، لا في ليبيا ولا في خارجها أيضاً.  وقد ذكر دي كاندول صديق الأمير إدريس  وفق معرفته الشخصية أن الملك لم يكن له سوى حساب متواضع في مصرف طبرق لإيداع المخصصات الملكيّة الزهيدة المقدمة من الحكومة.  ويذكر ان الرئيس عبد الناصر نفسه لم يترك اموالا او ممتلكات بعد وفاته.

نقل جثمان الملك إدريس عند وفاته في عام 1983 من القاهرة إلى المدينة المنورة في طائرة عسكرية مصريّة . وقد دفن في جنات البقيع جوار المسجد النبوي في بالمدينة المنورة، حيث دفنت زوجات وأبناء وصحابة الرسول. وقد جاء اختيار موقع الدفن  بناء على وعد قطعه الملك الراحل خالد بن عبدالعزيز في لقاء سابق لهما في موسم الحج سنة 1977م  ووافق عليه الملك فهد بن عبدالعزيز عقب وفاة الملك خالد ، وكذلك دفنت زوجته فاطمة في عام 2009 وإبن عمه أحمد الشريف السنوسي في عام 1933.

العهد الملكي الوطني في ليبيا : العثرات والإخفاقات

1. إخفاقات العهد الملكي الوطني في ليبيا : إلغاء النظام الحزبي

كان من إخفاقات العهد الملكي الوطني في ليبيا إلغاء الحكومة للنشاط الحزبي في اعقاب أول انتخابات جرت في ليبيا. ولكن وضع الأمور في إطارها التاريخي يشرح ابعاد هذا القرار. فقد التحق إدريس السنوسي بمدراس الكتاب في زاوية الكفرة، لحفظ القرآن الكريم، ثم واصل تعليمه في العلوم الأخرى على يد العلماء السنوسيين، وبذلك كان تعليمه محدوداً.  وفي ضوء معايشته لتَجربة الأحزاب السياسيّة المصريّة خلال فترة إقامته في مصر قبل تقلده الإمارة، اعتقد أن تَّجربة الأحزاب السياسيّة في المنطقة العربيّة قد أسهمت في ترسيخ الفرقة وفي نشوب صراعات حادة بين فئات الشّعب المختلفة.  وكانت ليبيا تعاني من مستويات عالية جدا من الأمية (أكثر من 90%) ولا يتجاوز عدد النخبة المتعلمة من خريجي الجامعات 14 خريجا، وفيها قليل من المدارس وتخلوا من المعاهد والجامعات والوعي السياسي محدوداً (الذي لا نزال نراه في عالمنا العربي) .

وفي إطار هذه الخلفية التاريخية، لم يكن من المستغرب أن يتوصل الملك ومستشاريه، بقدراتهم التعليمية والإدارية المحدودة، وغياب الرؤية المستقبلية، أن يروا بأن العمل الحزبي مازال مبكراً على دولة ليبيا الوليدة، وعلى شعبِ يعاني من الأمية والجهل والفقر، وبأنّ الأحزاب قد تؤثر سلبياً على الوحدة الوطنيّة وبناء مؤسسات الدولة الليبيّة الوليدة.

وقد ذكًر المعارضون لهذا القرار بالدور الذي لعبته الأحزاب والجمعيات السياسيّة الليبيّة قبل الإستقلال في توحيد صف الليبيّين من أجل وحدة ليبيا وإستقلالها ، وفي مبايعتها للملك  محمّد إدريس السنوسي في عام 1922م و 1940  وفي عام 1950.  وقد رأى هؤلاء أن هذا القرار ، على الرغم من مبرراته الموضوعية،  ساهم في خلق تباعد بين الدولة والقيادات الحزبية ورفض فئة كبيرة من المثقفين والمتعلمين آنذاك لنظام الحكم الملكي، والمطالبة بتغييره إلى نظام جمهوري واشتداد حملات الدعاية على السلطة الحاكمة واتهامها بالإرتهان للإرادات الخارجية (وهي نفس الشعارات التي لا نزال نشهدها في ايامنا هذه) رغم حالة الرخاء في ليبيا التي أعقبت ظهور النفط في بداية ستينيات القرن الماضي.

وأدى غياب الأحزاب السياسيّة إلى خلل هيكلي في النظام السياسي وعلاقات ملتبسة وصراعات بين رجال الدولة من السياسيين، تعددت فيها الولاءات الجهويّة والقبليّة، وتعرضها للتأثيرات الخارجية، وهو الفراغ الذي نفذ من خلاله حفنة من صغار الضباط لإسقاط النظام الملكي والإستيلاء على الحكم وإدخال ليبيا في نفق مظلم لم تخرج منه حتى يومنا هذا.

2. إخفاقات العهد الملكي الوطني في ليبيا : الفساد الإداري والمالي

كان فساد بعض أعوان الملك ، ومنهم رؤساء حكومات من العوامل التي ساهمت في خلق راي عام معادي للدولة. ورغم النوايا الطيبة للملك ، فلم تكن هناك آليات فاعلة لكشف ومحاسبة المسؤولين وامتصاص النقمة العامة.

3. إخفاقات العهد الملكي الوطني في ليبيا : غياب رجل الدولة

كان من شأن اغتيال ناظر الخاصة الملكية وإعدام قاتله الشريف محي الدين السنوسي من الأسرة السنوسية وكان شاباً بعمر 18 سنة،  أن أوجد حالة من الشقاق داخل الأسرة المالكة، أدت لإبعاد جميع أفراد الأسرة السنوسية، وتحديد إقامتهم وتحركاتهم.

وفي ضوء عدم وجود ابناء للملك لحسم ولاية العهد، وحالة عدم الثقة التي شابت علاقته بالمحيطين به ، فقد اصبح دائم التفكير في التنازل عن الحكم والتحول للحكم الجمهوري،  وقد قرر ذلك فعلاً لثلاثة مرات (1954 و 1966) كان أخرها قبل ايام من سقوط العهد الوطني في ليبيا، الأمر دفع البعض للإستنتاج بأنه كان ضعيفا كرجل دولة.

وكان تعديل دستور ليبيا الإتحادي الذي جعلها الدولة الوحيدة تاريخياً التي تغير نظامها من النظام الفيدرالي المركزي، من العوامل التي ساهمت في إضعاف الدولة. وكان من شأن هذه الظروف خلق جو من عدم الاستقرار السياسي الذي انعكس في التغيير المستمر للحكومات المستمر، وفي النهاية سمح لمجموعة من صغار الضباط بالإستيلاء على الحكم في عام 1969م ، وأدخل ليبيا في نفق مظلم لم تتمكن بعد من الخروج منه حتى يومنا هذا.

المصادر

http://www.libya-al-mostakbal.org/

http://www.libya-watanona.com/adab/shukri/ss12056a.htm

https://ejournal.um.edu.my/index.php/MUQADDIMAH

https://mirathlibya.blogspot.com/2010/11/25-9-45-14-33-1.html

http://www.libyanconstitutionalunion.org/kingidris1.pdf

https://www.wikiwand.com/en/Kingdom_of_Libya


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *