مراجعة مناهج التربية الدينية في اتجاه التربية على القيم الأخلاقية
وظيفة التربية الدينية في المدرسة
تسهم التربية الدينية (أو التعليم الديني) في المناهج الدراسية في تطوير معرفة وفهم التلاميذ للدين والمعتقدات الدينية وتأثيرها على الأفراد والمجتمع والتي تشكل جزءاً من ثقافته.
كما تسهم التربية الدينية في التنمية الروحية للتلاميذ وإكسابهم هويتهم الخاصة من خلال استكشاف معتقدات الدين الأساسية، والإجابة على أسئلة حول قيمة ومعنى وهدف الحياة التي يسعى معظم الشباب إلى الحصول على إجابات عليها. وبذلك يتمكن التلاميذ عندما يكبرون ويصبحون مستقلين من التصالح مع النفس والتعايش مع المجتمع.
وتمكن التربية الدينية التلاميذ من إدراك وفهم التنوع الديني وأهمية الدين في المجتمع، وفي فهم المعتقدات وتطوير الإحترام للأفراد الذين لهم معتقدات وممارسات مختلفة. ويؤدي غياب أو ضعف التربية الدينية عند التلاميذ إلى تطوير قوالب نمطية دينية والتمييز ضد المنتمين لأديان أو جماعات أخرى، الأمر الذي يجعلهم عرضة لخطر الجهل والتعصب والكراهية وعدم القدرة على التكيف في المجتمعات المعاصرة المتغيرة متعددة الإتجاهات والمعتقدات والثقافات.
موضوعات ذات صلة
مقياس الإسلامية 2021 | الدول الاكثر التزاماً بالمنظومة القيمية الاسلامية في العالم
التربية الأخلاقية | تجارب عالمية ممتدة.. للبناء عليها في مدارس العالم العربي
التربية الأخلاقية| مساق دراسي على قائمة الانتظار في مدارس العالم العربي
كما تسهم التربية الدينية في بناء إطار من القيم الأخلاقية للتلاميذ ينظم سلوكهم الشخصي، وبذلك يوفر لهم مبادئ للتمييز بين الصواب والخطأ وقاعدة لاحترام الآخرين والتصرف بنزاهة وبتوخي العدالة والحقيقة وحفظ الحقوق والمساواة، ويمكنهم من التفكير والتصرف بمسؤولية وشجاعة وتعاطف تجاه أنفسهم، والأشخاص الآخرين، والمجتمع والبيئة.
ويوفر الإطار القيمي المعاييري للتلاميذ إمكانية اكتساب ذهنية تحليلية ونقدية، تجعلهم قادرين على التفكير بأنفسم بطريقة مستقلة لتحليل أية معلومات تطرح عليهم وتقييم خلفياتها وحيثياتها ومبرراتها وعدم التسليم إلا بما يقتنعون بصحته، ولديهم القدرة على متابعة التعلم وأخذ العبرة من أخطائهم.
ومن شأن ذلك، أن يعزز المهارات والقدرات اللازمة للتحليل الفلسفي الذي تتطلبه الأسئلة الأخلاقية، وتطبيقها على القضايا المعاصرة ذات الصلة، وخاصة في مواجهة الأفكار المتطرفة، وفي تطوير معارفهم وفهمهم ومهاراتهم واتجاهاتهم، وهي أمور ضرورية لتطوير الذات وبناء الشخصية وتطورهم كمواطنين فعالين يتحلون بالمسؤولية الإجتماعية.
وتؤكد المناهج الدراسية للتربية الدينية في إطار المناهج الوطنية للتعليم على تعزيز القيم الروحية والأخلاقية والإجتماعية والتنمية الثقافية للتلاميذ وإعدادهم للفرص والمسؤوليات والخبرات في الحاضر والمستقبل للإسهام في إرساء أساس لمجتمع متعدد الثقافات مستقر أخلاقياً ومتجذر في تراثه الثقافي الممتد إلى عمق التاريخ.
ويتعين أن تكون أهداف منهاج التربية الدينية متسقة ومترابطة مع المنهاج العام ومكوناته، وأن تكون نواتج التعلم في منهاج التربية الدينية واضحة للطلبة والآباء والمعلمين والمسؤولين وأصحاب العمل والمواطنين الأمر الذي يسمح بوضع معايير لأداء جميع التلاميذ في التربية الدينية وبقياس التقدم نحو تلك الأهداف ووضع الأهداف لتحسينها.
التربية الدينية : لماذا تعديل المناهج
تتردد في العقد الأخير مطالبات كثيرة لمراجعة أو تجديد أو ترشيد أو تعديل الخطاب الديني في ضوء موجات التطرف والعنف والتكفير التي تضرب المنطقة العربية تحت دعاوى باطلة تتخذ من الإسلام مرجعية لها، وتضعها قضية تتصدر الاهتمامات العامة.
وفي هذا الإطار، تعلو الأصوات لتطوير منهاج التربية الدينية، الأمر الذي يتطلب تحديد الغايات التي يهدف إليها هذا التجديد في مجال التربية الدينية في المدارس.
هل الهدف من تجديد الخطاب الديني هو العبث بأصول الدين أو إضعافه في حياة الناس بإقصائه أو بالتقليل من تأثيره ؟.
والجواب على ذلك هو لا.
الهدف ليس الإلتفاف على ثوابت وأركان الدين، ولا نقد النصوص الدينية أو تحريف النصوص الشرعية، الأمر الذي يمكن أن ينعكس على فقدان الثقة في المؤسسات التعليمية الرسمية.
الهدف هو تزويد التلاميذ بما يحتاجون معرفته عن الدين في الوقت الذي يغادرون فيه المدرسة بحيث يشكل إطار قيمياً ناظماً لحياتهم وتفاعلهم الإيجابي مع أسرهم في الحاضر والمستقبل ومع أفراد المجتمع على اختلاف دياناتهم وثقافتهم ودورهم في خدمة المجتمع والإعلاء من شأنه.
الهدف هو نقل التربية الدينية من التركيز المجرد على أدق تفاصيل معتقدات الدين الأساسية، إلى الربط العضوي والتام بدور الدين الأخلاقي في نهضة المجتمع اقتصاديا واجتماعياً وثقافياً .
الهدف ببساطة هو ملاءمة محتويات ومضمون التربية الدينية لاحتياجات تلاميذ المدارس في مراحل التعليم المختلفة، دون المس بأي من ثوابت وأركان الدين والانسجام مع مقاصد الاسلام وقيمه السمحة وروح العصر.
الهدف هو جسر الهوة التربوية والثقافية في تربية جيل من التلاميذ الملتزم دينياً وأخلاقياً من خلال تكامل العبادات التعاملية مع العبادات الشعائرية، بحيث لا تقطف ثمارها إلا إذا اقترنت بالإلتزام بالعبادات التعاملية.
والهدف هو أحداث نقلة في الصفوف الدينية التي توصف بانها تقليدية ومكررة وغير جاذبة من حيث المناهج وطرق التدريس، إلى حالة يتم فيها تطوير أساليب التدريس لتطوير رغبة التلاميذ في تعلم الجوانب الدينية وتطوير وعيهم الثقافي وتعزيز منظومة القيم من خلال ربطها التام بسلوكيات العالم الحقيقي وإتاحة الفرصة لهم للتفكير والتحليل والمناقشة والاستكشاف العالم الذي يعيشون فيه، ولتقبل فكرة تعدد الأديان والثقافات وأن هناك العديد من المسارات في الحياة وتباين في المعتقدات والممارسات والأخلاق داخل المجتمع والتعاطف مع الناس من مختلف التقاليد.
التربية الدينية: الأخلاق .. هدف العبادات وأساس المعاملات
يتضمن علم الفقه الإسلامي قسمين أساسيين وهما:
• فقه العبادات ويتناول أحكام العبادات المكلف بها الإنسان بالتوضيح والتفصيل كما وردت عن النبي محمد وعن الصحابة. ويشتمل فقه العبادات على الأحكام العملية، لأداء المكلف وعلاقته بالله تعالى، مثل: الطهارة والصلاة، والزكاة، والصوم، وغيرها بهدف تعزيز العبادات وترسيخها، وربط العبادة وأحكامها بالكتاب الكريم والسنة النبوية المطهر
• فقه المعاملات ويتضمن الأحكام الشرعية العملية، التي تنظم علاقة المكلف بالآخرين مثل الأحكام المدنية، وفقه الأسرة، والمرافعات، والحدود، والعلاقات بين الحاكم والمحكوم، والعلاقات الدولية، والأحكام الإقتصادية، والعقود، والتصرفات الصحيحة وغير الصحيحة، وأحكام ومواضيع فرعية متعددة مثل الجنايات، الفرائض والمواريث، الأطعمة والأشربة، القضاء والشهادات.
والأخلاق أو القيم أو السلوكيات والفضائل هي هدف العبادات وأساس المعاملات و من أهم أركان الإسلام ومفاهيمه، ولهذا قال النبي محمد : إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق .
وتعاني المجتمعات من التدين الشكلى أو الظاهري، الذى يجسد انفصاما بينا بين العبادات والأخلاق والمعاملات، ومن استغلال الدين في شعارات الجماعات السياسية، ومن ظواهر متطرفة مدمرة تحت واجهات دينية.
وكثيرون هم الذين يظنون أن المهم هو أداء العبادات الواجبة، ولا يعبأون بجانب المعاملات أو السلوك، ومع ذلك يوصفون أو يصفون أنفسهم بالمتدينين. وهذا يؤشر على خلل كبير في التربية الدينية من جانب المؤسسات التعليمية والدينية فضلاً عن مؤسسة الأسرة.
ويظهر هذا التناقض سافراً ومستفزاً حين نرى فئات شابة على درجة عالية من التعليم، وعُرف عنها التدين ! (الظاهري) ينخرطون في منظمات تكفيرية ويشاركون في أعمال منافية لأبسط مبادئ الدين وللعقل البشري.
وقد نبه الشيخ محمد راتب النابلسي في أحد خطبه إلى مفارقة حادة عند المسلمين وهي الانفصال الشديد بين الأخلاق والعبادات، بين الدنيا والآخرة، وبين حقيقة الدين ومظاهر الدين.
وقال؛ تجد إنساناً يبدو في المسجد إنساناً كاملاً، لكنه ليس كذلك في بيته أو عمله أو في علاقاته الخاصة. وذًكر بحديث رسولَ اللَّهِ : والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمَن جاره بوائقه.
وفي حديث آخر للنبي محمد :
قال رجل: يا رسول الله إن فلانة، فذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار.
قال: يا رسول الله، فإن فلانة، فذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وأنها تصَّدق بالأثوار من الأقط (اللَبَن)، ولا تؤذي بلسانها جيرانها، قال: هي في الجنة.
وشدًد على أن ذلك لا يعني التقليل من شأن العبادة، وإنما يعني أن الإساءة إلى الناس تَنقضُ العبادة.
ولذلك، فإن الدمج بين العبادات والمعاملات فى التربية الدينية مهمة واجبة وتكاد ترقى إلى الواجب الشرعي.
ومن الأهمية بمكان أن ينشأ الطفل فى مناخ أخلاقي ترتبط فيه العبادات بالمعاملات ربطاً محكماً، فكما نعلمه الصلاة والصيام نغرس فيه الصدق والأمانة والإخلاص وحُسن السلوك، فى البيت والمدرسة والمسجد، فالأب والأم قدوة لأبنائهما، والمعلم قدوة لتلاميذه، وخطيب المسجد قدوة لرواد المسجد.
التربية الدينية: متلازمة العبادات والمعاملات
تعد الأخلاق في الإسلام من الركائز الأساسية لهذا الدين، ولهذا فالإسلام بناء أخلاقي، وقد ربط الإسلام بين العبادات والمعاملات.
ويحتاج حُسن الخُلُق إلى جهد، وإلى ضبط، فالإسلام رسالة أخلاقية، حتى أن الله تعالى أثنى على رسوله حين قال [وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ: القلم،4]، كما قال النبي محمد :”أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا”. وقال الشاعر أحمد شوقي: إنما الأُمم الأخلاقُ ما بَقِيتْ .. فإن هُمُ ذهبتْ أخلاقُهم ذَهَبُوا.
وجاء النبي محمد ليعلم الناس أن العبادة التى لا تنعكس في سلوكيات أخلاقية، تكون عبادة تظاهرية، ولا تحوز على القبول عند الله، وقد بين منزلة الأخلاق في رسالته باعتبارها جوهر وحقيقة الدين، حين قال “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
وتعد العبادات الشعائرية الكبرى من أركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج. ولهذه العبادات أهدافاً روحية سامية، وأبعادها الأخلاقية العالية عندما يتم أداؤها على الوجه الصحيح. ولا تقطف ثمار العبادات الشعائرية إلا إذا رافقتها عبادات تعاملية، ولا بدَّ من تلازم العبادة والخُلُق.
فالصلاة كما ذكر القرآن] تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ :العنكبوت، 45]، والصيام يؤهل للتقوى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: البقرة،183]. وجاء في الحديث “رب قائم حظة من قيامه: السهر، ورب صائم حظه من صيامه إلا الجوع والعطش”. وفي حديث آخر “من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.
والزكاة [ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا: التوبة،103] ، والحج [فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ :البقرة،197]
وتركت التوجيهات الدينية للقرآن والسنة أثرها على تاريخ الإسلام العلمي والفكري، والسلوكي والعملي، الحافل بالأخلاق والفضائل، التي اهتم المسلمون بها نظرياً وتطبيقاَ، وقولاً وفعلاً.
ولذلك، ربط المسلمون بين العبادة والأخلاق، فمن أدى العبادات، وأساء في المعاملات، انتقده الناس وسخروا منه، وقالوا عنه: يصلي الفرض، ويفسد في الأرض! لسانه يسبّح ويده تذبّح! و شاع بين المسلمين حكمة “الدين المعاملة”، حتى عدّها البعض حديثا نبوياً، وما هي بحديث ولكن معناها صحيح.
وربط المسلمون بين الاقتصاد والأخلاق، فلم يجيزوا كسب المال من الحرام، ولا تنميته بطريق حرام.
وربط المسلمون بين العلم والأخلاق، فلا قيمة لعلم لا يطابقه العمل والسلوك. وأثر عن المسلمين قولهم: “علم بلا عمل، كشجر بلا ثمر، أو كسحاب بلا مطر”.
وربطوا بين الأقوال والأفعال [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ:الصف، 3-2].
ومن أهم الأخلاق التي تميز بها الإسلام خُلقْ الرحمة في السلم والحرب، وربط المسلمون بين الحرب بالأخلاق، فلا يجوز أن يقتل إلا من يقاتل، لهذا نهى الإسلام عن قتل الصبية أو النساء. ورأى النبي محمد امرأة مقتولة في إحدى الغزوات، فأنكر ذلك، وقال:..ما كانت هذه المرأة لتقاتل…
وربط الإسلام بين الرحمة والدين ، وكان عنواناً للرسالة [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ: الأنبياء، 107]. وأوصى النبي محمد بالرحمة “الراحمون يرحمهم الرحمن”، و”ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”. ويتجلى هذا الخلق في معاملة الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة، من المرضى وكبار السن، والحيوانات.
وربط الإسلام بين الدين والعدل ، قال تعالى [ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ : النساء ، 58] .
وربط الأمانة بالدين والحياة فقال النبي محمد : “لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له” .
وقد شبه الشيخ محمد راتب النابلسي العبادة التعاملية (المعاملات) من صدق وأمانة وعفة وإنجاز وعد، وإنصاف، وعدالة، ورحمة، وعفو، بأعمال السنة للعام الدراسي، وشبه العبادة الشعائرية من صلاة وصيام وحج، كساعة الامتحان. وتساءل: هل هناك قيمة ومعنى لساعة الامتحان من دون متابعة الدراسة طوال العام؟ .
لذلك لا تتحقق ثمار العبادات الشعائرية إلا إذا تجسدت في العبادات التعاملية.
التربية الدينية: تجديد المناهج
هناك خلل كبير في التربية الدينية للأجيال الشابة من جانب المؤسسات التعليمية والدينية فضلاً عن مؤسسة الأسرة، يستدعي جسر الهوة التربوية والثقافية في تربية جيل من التلاميذ الملتزم دينياً وأخلاقياً.
ويتركز جوهر مشكلة منهاج التربية الدينية في كثير من الدول العربية، أن مناهج التعليم تميل إلى جانب التفصيل في فقه العبادات على حساب فقه المعاملات، الأمر الذي أدى فصل الدين عن الدنيا وإلى خلق صورة نمطية للمتدين، بأن الجنة وعدت للمتقين، وأن المتقين هم الناس الذين يمارسون الشعائر الدينية، ويكونوا أكثر تقوى كلما غالوا في ممارستها، وكلما رددوا عدداً من الكلمات أو الأدعية، دون الربط بشكل جزئي أو كلي مع سلوكيات المتدينين.
وقد أدى فصل الدين عن الدنيا في الخطاب الديني العام، وفي مفاهيم الدعوة والفكر المنتشرة التي تضج بها مواقع التواصل الإجتماعي، وفي مناهج التربية الدينية الخاطئة إلى ظهور فئات متدينة متطرفة تقدم نفسها على أنها تمثل الدين وتغالي في ممارسة الشعائر الدينية، وتعبر عن قراءتها وفهمها وتأويلها وتفسيرها للنصوص الدينية وتمارس سلوكيات بطريقة تتعارض مع جوهر الدين.
ويستوجب هذا الخلل إعادة بناء مناهج التعليم الديني بمنهج تكاملي بهدف تعميق التربية الدينية ابتداء من المراحل الإبتدائية ووصولا للمرحلة الثانوية في اتجاه فقه المعاملات والجانب القيمي في الدين بشكل كبير، بهدف تعزيز وظيفة الدين الروحية في إعلاء القيم والتمسك بالأخلاق العالية، وبهدف غرس أخلاقيات العمل القويمة وإعدادهم ليصبحوا أفراداً منتجين ومؤثرين في مجتمعاتهم ورواداً لعملية التنمية المستدامة.
وهذا لا يعني إغفال فقه وآداب العبادات، وإنما تعليمها بشكل كامل، ولكن مع ربطها بشكل تام مع سلوكيات المتدين. فأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقاً، وقد حدد النبي محمد رسالته في قوله: إنما بعثت فيكم لأتمم مكارم الأخلاق.
ولا بد من أن تجري عملية مراجعة المناهج التعليمية والتربوية في ضوء عملية تقييم شاملة للمنظومة التربوية بمدخلاتها ومخرجاتها ومناهجها ومضامينها لمواكبة التقدم الإقتصادي والإجتماعي ومن خلال أصحاب الإختصاص والريادة العلمية والمهنية بطريقة علمية وموضوعية ومستقلة ومتأنية.
فالتربية الدينية الأخلاقية متجذرة في الديانات السماوية، وهي جزء من الثقافة العربية الأصيلة التي ترسخ القيم السامية مثل التسامح والاحترام والكرامة والتواضع التي تزرع المحبة تجاه أبناء الوطن والشعوب العربية واحترام الثقافات العالمية للشعوب الأخرى على امتداد العالم؛ “وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ”: سورة الحجرات 13.
المطلوب هو التركيز على ما يحتاج التلاميذ معرفته عن الدين في الوقت الذي يغادرون فيه المدرسة.
هل يحتاج المجتمع إلى تلاميذ فقهاء على معرفة تفاصيل واسعة عن فقه العبادات والشعائر الدينية ؟ دون أن يتمكنوا من ربطها بأهدافها الأخلاقية نظرياً وعملياً.
أم يحتاج المجتمع إلى تلاميذ على معرفة بمعتقدات الدين الأساسية ومتميزين أخلاقياً في الشعائر التعاملية، التي تشتد اليها حاجة المجتمعات العربية.
وهذا يتطلب توسعاً كبيراً في المواد التعليمية وتغييراً في أساليب التدريس بهدف غرس القيم السامية في نفوس التلاميذ وربط الشعائر العبادية بالشعائر التعاملية .
الغاية هي تربية الأطفال على أن الأخلاق الحسنة هي هدف الدين، وأن الإيمان لا يصح دون ذلك. فالدين المعاملة، ومن لم تحسن معاملته للناس، جميع الناس، إلى أي دين أو جماعة إنتموا، لا يكمل إيمانه.
وهذا ينطبق أيضاً على الحيوانات والنباتات والطبيعة التي نعيش فيها، حيث نرى كثيراً من الأطفال يطاردون الحيوانات ويتلهون بتعذيبها أو بإتلاف النباتات. وقد ذكر أن أن إمرأة دخلت النار لقطة حبستها فلا هى أطعمتها، ولا هى تركتها تأكل من خشاش (حشرات وطيور) الأرض.
وتأتى أهمية المعاملات فى الإسلام فى أن غير المسلمين ربما لم يعلموا شيئا عن عبادات المسلمين لكنهم يعايشون سلوك وأخلاق المسلمين.
فالناس ينظرون إلى سلوك المسلمين على أن هذا هو الإسلام، فإن كان فى تدينهم قصور ظنوا أن هذا هو الدين. وينال محمد صلاح اللاعب الرياضي المصري محبة الناس في أوروبا، ليس لكثرة تعبده، وإنما لسلوكه المهذب ويقدم خدمة للدين أكثر من فرقة من الواعظين.
وقد نشأت مشكلة الغلو والتطرف واستشرت فى أنحاء واسع من العالم الإسلامي نتيجة تصدر أناس من غير المتخصصين فى علوم الشريعة، ونتيجة لعدم فهمهم الجيد والحقيقى والمتكامل للدين؛ وتركيزهم المتواصل على المظاهر الشكلية من الملابس أو اللحى، وترديد عبارات أو أدعية أو آيات معينة، وأداء الشعائر بطريقة تظاهرية، وغياب السلوكيات التي تعكس قيم الإسلام السامية، وفتاوى التكفير وفتاوى شاذة غير منضبطة الأمر التى أضعف المجتمعات الإسلامي وعرضها لأخطار جسيمة ولقمة سائغة لقوى إقليمية وعالمية لاحتلال أراضيها ونهب ثرواتها.
ولهذه الحيثيات جميعاً، فإن الحاجة ماسة للتشديد على صفات المؤمن القدوة في السلوك الديني الذي يجسد الصدق والإيثار والأمانة والإخلاص للأوطان باعتباره جوهر الدين، وقد كان النبي محمد يوصف دائماً بالصادق الأمين.
ويتعين تربية الأطفال على أن التمسك بالمظاهر وحدها والتركيز على فقه العبادات دون ربطها عضوياً بفقه المعاملات، يُفقد المرء صفة التدين. وأن التميز بالأخلاق في السلوك هو صفة المؤمن، وأن التقيد بالعبادات هو السلوك الطبيعي لمن يتميز بهذه الصفات.
إن التدين الظاهري هو الذي فتح الباب للمتطرفين الذين يرتكبون جرائم كبيرة بينما يدعون أنهم يدافعون عن الإسلام من منطلق تطرفهم في ممارسة الشعائر الدينية، دون التحلي بالقيم العالية في الدين (الأمانة والرحمة والإنسانية وخدمة الأوطان…).
التربية الدينية: جوانب تربوية هامة بحاجة لعناية خاصة
– تجنب المواد التعليمية الي تتناول التفرقة والتمييز بين الأديان والطوائف، باعتبارها قضايا فقهية لها سياقاتها التاريخية ولا مجال للخوض بها في مناهج المدارس، وتقديم معلومات إيجابية عن الديانات الأخرى باعتبارها ديانات سماوية. فالتربية الدينية الأخلاقية هي وسيلة لبناء الإنسان الذي يعرف دينه، ويحترم من يخالفه في المعتقد والرأي والموقف وأسلوب الحياة، ويتحاور معه، ولا ينأى بنفسه عنه، أو يتخذ منه عدواً له لمجرد أنه يختلف معه في أمور كثيرة. وبذلك تسهم التربية الدينية في خلق مجتمع ناجح ومتكامل ومتعدد الثقافات.
– تعزيز دور الأسرة في رعاية أبناءها تربوياً وتعليمياً دينياً وأخلاقياً وواجبها في حماية الأبناء وتهيئتهم لخدمة أوطانهم ولدورهم في بناء أسر جديدة، والمساواة بين الجنسين ومكافحة العنف ضد المرأة باعتبارها واجباً دينياً ومنحها كامل الحقوق التي شرعها الله.
– العناية في المواد التعليمية التي تدرس للأطفال التي تتناول الأحكام غير الموثقة شرعياَ التي تميز الرجال عن النساء وتبيح قمع النساء والزوجات وكذلك تعدد الزوجات دون ضوابط شرعية صارمة.
– تنقية المناهج من المعلومات التي تتصل بالمواضيع الحساسة ذات السياقات التاريخية التي لا تتمشى مع الحياة المعاصرة مثل رق الحروب والإماء وملك اليمين وجهاد الطلب ودار الحرب.
– استبعاد المعلومات التي تتصل بأية غيبيات أو توصيفات متخيلة مثل فتنة القبر أو رؤى وموروثات لا تستند على إعمال العقل أو مصادر موثوقة والواردة في بعض أدبيات التراث الإسلامي.
– الإعتماد في تدريس مبادئ الدين الأساسية على القران الكريم والأحاديث الثابت صحتها وتفسيرها، وتجنب استخدام اية مراجع علمية لأفراد يشكلون مرجعيات للفكر التكفيري بصرف النظر عن طبيعة المادة العلمية، لأن ذلك يمنحهم الشرعية والمصداقية للأجيال الشابة الذين قد يحتاجوا للبحث عن معلومات دينية.
المصادر