التربية الأخلاقية : تعليم القلوب
إن جودة التعليم أمر أساسي لنجاح الفرد في الحياة وفي المجتمع الأوسع وفي خدمة الأوطان. غير أن تطوير قدرات الإنسان العلمية والفكرية وحدها لا تكفي وحدها لتجعل منه عضواً فاعلاً يساهم بإيجابية في خدمة مجتمع ووطنه.
وهناك حاجة بنفس القدر من الأهمية لبناء الشخصية، فتوفير العلم النافع المتقدم لتعليم العقول، وغرس القيم السامية لتعليم القلوب، هما معاً جوهر التعليم الحقيقي.
موضوعات ذات صلة
مقياس الإسلامية 2021 | الدول الاكثر التزاماً بالمنظومة القيمية الاسلامية في العالم
مناهج التربية الدينية |تعميق البُعد الفِيَمي والربط بين الدين والأخلاق
التربية الأخلاقية | تجارب عالمية ممتدة.. للبناء عليها في مدارس العالم العربي
ولذلك، يعتبر التطور الأخلاقي وتكوين الشخصية من بين أهم أهداف التعليم المدرسي، فالعلم يكسب العقول، ولكن بالأخلاق يمكن أن تكسب القلوب. وقد شدد أحمد شوقي قبل أكثر من مائة عام على أهمية الأخلاق في بناء الأمم حين قال: “وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا”.
وتكتسب التربية الأخلاقية (التعليم الأخلاقي، بناء الشخصية..) أهمية متزايدة لنمو الأطفال في ضوء المشكلات السلوكية بين الطلاب الذين يتصرفون بشكل غير مسؤول نتيجة التأثيرات العصرية الحديثة والتغير الإجتماعي وتغير البيئة الأسرية كانشغال الوالدين في كسب الرزق أو عوامل ثقافية أسرية وعدم قدرتهم على توفير الرعاية التربوية المناسبة، الأمر الذي يستدعي غرس مفاهيم اخلاقية عامة.
ويؤكد ما نشاهده على مواقع التواصل الإجتماعي من اتجاهات سلبية عميقة وتدني مستويات الوعي وانحدار مستوى الحوار والتواصل، الحاجة الماسة للتعليم الأخلاقي لغرس القيم الإنسانية العالية، وتعلم لغة الحوار كأحد أهم أدبيات التواصل الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي التي تتطلبها الحياة في مجتمعنا المعاصر.
وتشمل القيم الإنسانية العالية المصداقية والأمانة والولاء والإحترام والإنصاف والكرامة واللياقة واللطف والبساطة والتواضع والقناعة والعطف والرحمة والصدق والنزاهة والعدالة والعمل الجاد والإخلاص والجرأة والاهتمام بالغير وروح المواطنة وحب الأوطان وحس المسؤولية الإجتماعية والإنفتاح الإجتماعي والثقافي بين فضائل أخرى.
التعليم الأخلاقي: الإنسان كائن اجتماعي
يتوقف قبول الناس للمرء إلى حد كبير على قدرته على فعل الأشياء الصحيحة والعمل الجاد والمخلص وعلى سويته وأخلاقياته وليس على ما يقوله أو قد يحوزه من علم أو جاه.
فالإنسان كائن اجتماعي يعيش ويتفاعل داخل المجتمع، ولذلك يحتاج أن يتعلم عادات اجتماعية تسهل الإندماج في المجتمع ليكون عضواً فاعلاً فيه، مثل حُسن التعامل مع الأسره ومع الناس ومع المعلمين في المدارس والجامعات بين فضائل أخرى.
وهذه العادات الجيدة تجعل من المرء مخلوقًا اجتماعيًا جيدًا لنفسه وللمجتمع الذي يتفاعل معه، يحترم التقاليد والثقافة ويعتز بوطنه، ويتعايش مع ويحترم بنفس القدر مشاعر الآخرين الوطنية المماثلة.
وعندما يحصل الطالب على التربية الأخلاقية في مراحل دراسته الأولى، فإنها تؤثر في اتجاهاته إيجابياَ، وفي مفردات تعامله مع المجتمع وفي أعماله، ويكتسب عادات حميدة تُكون شخصيته، والتي بدورها تحدد مستقبله. وهكذا يصبح طالباً أكثر التزاماً بواجباته وفي إعداد نفسه، ويصبح أكثر مسؤولية شاباً وعاملاً، ويحسن التصرف داخل المجتمع في حاضره ومستقبله.
التعليم الأخلاقي: حاجة اجتماعية ووطنية في مدارس العالم العربي
تلعب الأسر دوراً رئيسياً في تطوير أخلاق أبناءها، ولكن التلاميذ يقضون وقتاً طويلاً في المدارس، حيث سيتم تشكيل العديد من الأفكار، ولهذا تكتسب التربية الأخلاقية في المدرسة أهمية كبيرة.
وهناك دول كثيرة تضع التربية الأخلاقية في مناهجها مثل الولايات المتحدة وجميع دول أوروبا تقريبا بما في ذلك المملكة المتحدة وفرنسا واليابان وكوريا وسنغافورة وماليزيا والصين وتركيا، وحديثا في الدول العربية في الإمارات ومصر.
والتربية الأخلاقية ليست موضوعًا أو منهاجاً محددًا للمدارس محلياً وعالمياً، كما في مساقات علوم الرياضيات أو الفيزياء المتماثلة عالمياً. فالتربية الأخلاقية تعني الكثير من الأشياء المختلفة للكثير من الناس المختلفين.
ولكن، على الرغم من اختلاف الهيكلية والمضمون والممارسات التعليمية لمناهج التربية الأخلاقية وبناء الشخصية في إطار الخلفيات التقليدية والدينية والاجتماعية والثقافية الخاصة بها، فإنها تتشارك في أهداف تعليمية مماثلة. فمناهج التربية الأخلاقية جميعاً تهدف لمساعدة الطلاب على التطور إلى أعضاء فاعلين قادرين على خدمة مجتمعاتهم وأوطانهم بإيجابية.
ويجري دمج المفاهيم الأخلاقية في جميع المساقات الدراسية التي تدرس في دول العالم، وتُدرَّس ضمن موضوعات مختلفة مثل اللغات والأدب وكتب القراءة التكميلية ونشاطات ثقافية حيث يجد كل طالب فرصة للتعبير عن نفسه فضلاً عن الدور المعنوي الذي يلعبه المدرس نفسه وغيرها، غير أن كثيراً من الدول تضع التربية الأخلاقية كمنهاج وموضوع مستقل.
وتهدف التربية الأخلاقية إلى تعزيز السلوكيات الجيدة بين الطلاب من خلال مختلف نشاطات التعليم.
ولتحقيق هذا الغرض، يعمل اختصاصيو التربية الأخلاقية على إعداد مواد التعليمية تتمشى مع مستويات التعليم وتطبيق أساليب تعليمية متعددة مناسبة. ومن بين هذه الأساليب، القدوة التي يحتذى بها أو النماذج والأمثلة أو لعب الأدوار.
وتهدف هذه المواد والأساليب المختلفة إلى تعزيز التربية الأخلاقية وتنمية الشخصية، من خلال تقديم قصص من الحياة الواقعية تقدم أمثلة لسلوكيات وشخصيات أخلاقية، وتعتبر واحدة ممن بين الطرق التعليمية الفعالة للتربية الأخلاقية الأكثر استخدامًا.
والهدف المرجو من إدخال التربية الأخلاقية في العالم العربي هو الإعلاء من شأن القيم العربية السامية وتعزيز روح المواطنة لدى الإنسان العربي بحيث يسعى لأن يكون عضوا فاعلاً في المجتمع. كما يهدف لتنمية روح الإعتزاز بالثقافة الوطنية والعربية والاحترام والتعايش مع الثقافات الأخرى في وطن مسالم يسود فيه الإحترام للآخر؛ وللعالم الواسع الذي يسوده السلام.
تجارب التربية الأخلاقية : الدول العربية
دولة الإمارات: التربية الأخلاقية
بدأت مدارس دولة الإمارات في تدريس مادة التربية الأخلاقية في عام 2017 للصفوف الدراسية الإبتدائية والإعدادية وللمرحلة الثانوية ابتداء من العام 2018. وقد أصبحت المادة جزءاً من المنهاج التعليمي باعتبارها جوهر الحياة وركن أساسي في إعداد الطلاب لبناء المستقبل من خلال متلازمة تعليم عقول الشباب، وتعليم القلوب كما قال زعيم التبت الدلاي لاما.
وجاءت الرؤية لهذا التوجه بهدف تطوير السمات الفردية وبناء الشخصية للطلبة للتفكير بطريقة تحليلية ونقدية وغرس القيم والأخلاق وترسيخ المبادئ الإنسانية في نفوس الشباب مثل التسامح والاحترام والكرامة والتواضع والأمانة والصدق والمرونة والإصرار والعزيمة والمثابرة، والتعاون وحب الخير للآخرين، وأن تنعكس هذه السمات في سلوكياتهم اليومية وممارستهم العملية في الحياة العامة في المجتمع، بحيث تكون منهج حياة لهم في المستقبل.
كما جاءت الرؤية بهدف توعية الفئات الشابة في مجالات الثقافة المالية، والإدمان، والصحة العقلية والجسدية، والمعرفة الرقمية وأخلاقيات العمل القويمة والانضباط بهدف تنمية شخصيتهم وإدراكهم لانتمائهم في المجتمع، وبناء جيل منفتح يتحلى بالمسؤولية والمرونة والإيجابية ويدرك تماماً حقوقه ومسؤولياته ويمكنه الاندماج في عالم يزداد عولمة.
واستهدف برنامج التربية الأخلاقية تعزيز معرفة الطلاب بالتنوع الثقافي والقيم العالمية التي تعكس التجارب الإنسانية المشتركة، والتحلي بمبادئ التسامح والانفتاح والاحترام وقبول الآخر واحترام الثقافات العالمية والتعلم والاستفادة من القيم الثقافية المشتركة التي تحملها المجتمعات والثقافات المتنوعة في مجتمع دولة الإمارات متعدد الثقافات والعابر للأديان.
ويتضمن برنامج التربية الأخلاقية أربع ركائز أساسية، وهي: الشخصية والأخلاق، والفرد والمجتمع، والتربية المدنية، والتربية الثقافية، تم تصميمها في وحدات متدرجة يتم تدريسها لجميع الصفوف المدرسية وحتى الصف الثاني عشر. ويتضمن موقع التربية الأخلاقية معلومات شاملة عن البرنامج والمنهاج والمواد التعليمية لكل صف دراسي.
وسوف يتلقى الطلاب ساعة دراسية من التربية الأخلاقية في الأسبوع. ويتم تزويد المعلمين والطلاب بالموارد اللازمة لتدريس التربية الأخلاقية ضمن المعايير المحددة، ولكن دون أن يكون هناك كتب مدرسية محددة أو اختبارات ونظم للعلامات في الوقت الحاضر، حيث أن البرنامج لا يزال حديثاَ وخاضعاً للمراقبة وللتقييم.
وقد خضع المعلمين الذين يقومون بتدريس التربية الأخلاقية لدورات تدريبية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة للتعرف على مفاهيم ومكونات وأهداف مادة التربية الأخلاقية وآليات التدريس المناسبة لكل من مكوناتها المختلفة.
مصر: القيم والأخلاق والمواطنة
بدأت مصر في تدريس مادة القيم والأخلاق والمواطنة للصفوف الإبتدائية 1-3 ، في العام 17-2018 ، وتم إعداد ثلاث كتيبات للأنشطة للصفوف الثلاثة الأولى من المرحلة الابتدائية.
وتركز هذه الكتيبات على قيم إشاعة المحبة والتسامح والتعاون وقبول اﻵخر وأخلاقيات العمل والوﻻء واﻻنتماء. وقد تم إدراج مادة القيم والأخلاق والمواطنة إلى جانب مادة التربية الدينية.
المملكة العربية السعودية: بناء الشخصية
بدأ تدريس مساق الفلسفة لطلبة الثانوية في المملكة العربية السعودية اعتباراً من العام 2018 ، باعتبار أن تدريسها يسهم في تنمية القدرة على التفكير النقدي والتحليلي للفئات الشابة. ويسهم التفكير النقدي في بناء الشخصية للفئات الشابة والذي يمثل أحد مكونات مادة التربية الأخلاقية أو بناء الشخصية. ولكن الحاجة لا تزال ماسة لتدريس مادة التربية الأخلاقية، وخاصة للمدارس الإبتدائية.
ويوفر التفكير النقدي القدرة على التحليل وتقييم الأدلة والحقائق للوصول إلى حُكم موضوعيّ، وليس التسليم بأي شيء قبل التحقق من صحته. وهذه المهارة حيوية لتمكين الفئات الشابة من تحديد خياراتها المستقبلية وحمايتها من تأثير التيارات الفكرية السلبية بطريقة عقلانية رشيدة.
وتُدَرِس كثير من الدول العربية مادّة الفلسفة الإسلامية، غير أن مادة الفلسفة لا تدرس بشكل عام في الدول العربية.
وتؤكد الأنظمة التي تسودها الحاكمية الرشيدة على ضرورة تعليم الإنسان كيف يفكر وكيف يختار بنفسه ما ينفعه.
ويتصل جوهر مادة الفلسفة بأن الحقيقة المطلقة لا يملكها أحد وأن الحقيقة نسبية للفرد.
وبذلك فإن كثيراً من الأمور التي تقع في إطار الجوانب الإنسانية والعلوم التجريبية هي في الواقع نسبية، وأن الآخر يملك جزءاً من الحقيقة وله الحق في أن يكون له رأيه الخاص، والذي قد يختلف عن آراء الآخرين، وذلك انطلاقاً من رؤيته للحقيقة كما تظهر له.
وهذا يعني أن لا أحد يحتكر الحق والصواب وأنَّ كلَّ وجهاتِ النظر محترمة، ويقود إلى إلى التعددية في الآراءِ والأفكار، وثقافة احترام الآخر في رأيه وتفكيره والإنفتاح والتسامح واحترام الحق في الاختلاف والقدرة على رؤية الأشياء من منظور الآخر، والرفض العقلي لدعوى امتلاكِ الحقيقة المطلقة من أي أحد، والتي تؤسس لدى حاملها شرعية استخدام كل الوسائل دفاعًا عنها والذي يندرج في إطار التطرف والتعصب الديني.
كما أن الأخذ بنسبية الحقيقة في التفكير الفلسفي، يقود منطقيا إلى أن معلوماتنا وفهمنا قاصرة عن بلوغ الحقيقة، وينقلنا من ثقافة اليقين الأعمى إلى ثقافة التساؤل والشك عن ماهية أية أفكار طارئة أو جديدة، ويدفع لطرح الأسئلة ومحاولة الحصول على إجابات عليها واختبارها ونقدها، ويستدعي البحث عن المزيد من المعلومات والفهم، وعن مزيد من الأدلة وربما الوصول لأفكار جديدة.
و يشهد هذا العصر تطورا هائلاً وسريعا في تقنيات الإنتاج والمعلومات والإتصال، والتي تخضع جميعاً لسلطة العقل التحليلي والعلم التجريبي. وهذا يعني أن الدخول في عصر الحداثة والعولمة يستدعي مراجعة تحليلية لكثير من الأفكار المسبقة وسلوكيات الماضي ومؤسساته الإقتصادية والسياسية والإجتماعية التي قد لا تتمشى مع متطلبات ومعايير العصر وحاجات المجتمعات العربية الحقيقية، والقطيعة مع تلك العناصر المادية وغير المادية من الثقافة التي تتعارض مع جهود التنمية والتطوير للإنسان والمجتمع العربي.
ويعزز ارتقاء المستوى العقلي وتطوير القدرات الذهنية والمهارات الفكرية من القدرة على إدراك مشكلات المجتمع وتحليل أسبابها بالاستعانة بالأدلة المنطقية والتفكير العقلي المجرد والوصول إلى حلول عملية لها بتضافر الجهود مع الدولة لتنظيم شؤون الحياة، والإسهام في تحقيق أهداف المجتمع.