العهد الملكي: تاسيس الدولة الوطنية
العراق ما قبل الدولة الوطنية
تعتبر العراق .. بلاد ما بين النهرين واحدة من أقدم الثقافات في العالم، والتي ساهمت في إغناء التراث الإنساني. وقد تعاقبت عليها الحضارات على مر التاريخ منذ آلاف السنين قبل الميلاد، وخلقت ثروة متنوعة من التراث الحضاري.
وتُعدّ شريعة حمورابي مؤسس الدولة البابلية الأولى أول منظومة قانونية متكاملة في التاريخ تضم ما يقارب ثلاثمائة من القوانين الإجتماعية الناظمة للحياة تتمشى مع ذلك العصر. وقد وضعت تشريعات حمورابي قواعد دولة المؤسسات، الأمر الذي تمس إليه الحاجة في عراق اليوم؛ الحوكمة ودولة المواطنة وسلطة القانون.
موضوعات ذات صلة
العراق أرض الحضارات (1) | أول من أقام دولة القانون.. واليوم..من الأكثر حاجة لها في العالم
مدن عربية | مدينة المنصور بغداد … حاضرة الدنيا .. وملتقى طرق العالم (1)
مدن عربية | دار السلام بغداد… التي قيل فيها يوماً؛ من لم يرها.. لم يرى الدنيا ولا الناس (2)
أهوار العراق | تراث إنساني عالمي لبلاد الرافدين أنقذته رحمة السماء في نهاية آذار 2019
معالم حضرية عربية| برج ساعة الأعظمية…تجربة كاشفة لحضارة العراق
زها حديد| سيدة العمارة في العالم من العراق
خلقت ظروف الحكم العثماني والعصور السابقة له في العراق، بيئة مواتية لتعزيز القبلية والطائفية والمذهبية، وسادت القيم والأعراف العشائرية التقليدية، شأن كثير من المجتمعات العربية في الهلال الخصيب والجزيرة العربية.
وقد وقع العراق تحت الإحتلال البريطاني بموجب اتفاقية سايكس بيكو، إلا أن ذلك فتح للعراق نافذة للتحديث عبر الإحتكاك مع عناصر الحضارة الاوربية، والإنفتاح على أفكار جديدة حول الديموقراطية وإدارة الدولة وتطور العلوم والتقنيات الحديثة.
العراق: مرحلة العهد الملكي … مشروع بناء الدولة الوطنية 1921 – 1958
احتلت بريطانيا العراق في نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1916، ونصبت إدارة مدنية بريطانية، ووضعت أنظمة وقوانين ومبادئ إدارية وضرائب مستمدة مما كان سائداً في مستعمرة الهند، وذلك سعياً لضم أجزاء من العراق إلى الهند.
ثار الشعب العراقي على السلطة المحتلة، وتشكلت في عام 1919 جمعيات وطنية شاملة تطالب بالاستقلال. وضمت هذه الجمعيات جمعية العهد التي أسسها عزيز علي المصري، وجمعية حرس الاستقلال التي أسسها علي البازركان وجلال بابان وآخرين. وتطور حركة الإستقلال إلى ثورة عارمة في عام 1920، شملت معظم المدن العراقية للتخلص من الاحتلال ونيل الاستقلال، عُرفت بثورة العشرين.
عُقد مؤتمر في القاهرة في عام 1920 ، ووافقت بريطانيا على تشكيل حكومة وطنية عراقية انتقالية برئاسة نقيب أشراف بغداد عبد الرحمن النقيب الكيلاني، ومجلس نواب تأسيسي لتولى تشكيل الوزارات والمؤسسات والدوائر العراقية، ولاختيار قيادات وطنية لتولي المهام الحكومية.
نُظم استفتاء شعبي في عام 1921 على تنصيب فيصل الأول ملكا على العراق، ونال تاييداً كبيراً. وكان فيصل ملكاً على سوريا لمدة عامين 18-1920 قبل احتلال فرنسا لسوريا بموجب اتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا.
كان هدف سلطة الإحتلال هو السيطرة على العراق وحل الصراعات المحلية على السلطة والنزاعات القبلية والحد من دور المؤسسة الدينية.
وكان هدف سلطة العهد الملكي العراقي الجديدة بناء دولة ووضع دستور في عام 1924 وإجراء انتخابات برلمانية لأول مرة، لمنح الشعب العراقي دوراً في المشاركة السياسية وبناء الدولة الفتية. وبدأت حكومة فيصل الأول بتأسيس نواة للجيش العراقي وإقامة بنية مؤسسية وطنية للادارة والتعليم والصحة والزراعة والري والقضاء وغيرها.
تقاطعت مصالح سلطة الاحتلال البريطانية في بناء مؤسسات لتمكينها من السيطرة على العراق، مع مصالح سلطة العهد الملكي في أن تكون تلك المؤسسات، نواة لاقامة دولة وبنية مؤسسية مدنية لم يعرفها العراقيون قبل ذلك.
تميز الجيل المؤسس لسلطة العهد الملكي العراقي بطموحات لخلق مجتمع جديد ودولة حديثة ذات نزوع قومي ووطني وليبرالي. وكان هناك سعي لتشكيل نخبة سياسية واجتماعية طليعية تضم عرباً وكرداً من مختلف الطوائف والمذاهب، تقود البلاد نحو التوحيد والاستقرار وبناء مؤسسات سياسية ومنظمات اجتماعية وثقافية.
كان عهد الملك فيصل الاول (1921-1933) مرحلة هامة في تأسيس الدولة العراقية الوطنية، على الرغم من تحديات السلطة البريطانية المحتلة وضعف الوعي الوطني والسياسي والحركات المسلحة الإنفصالية في شمال العراق وجنوبه وشيوع الروح القبلية والطائفية والمذهبية وسيطرة ملاك الاراضي الكبار من شيوخ العشائر.
اعتمدت سلطة العهد الملكي على نخبة من المدنيين والعسكريين من أصحاب الخبرة الذين عملوا مع الجيش العثماني ومجموعة من المثقفين. وعمل هذا الجيل على ترسيخ الدولة العتيدة وتطوير مؤسسات مدنية جديدة، وتأسيس جيش وطني دون أي محاصصة.
عزل فيصل الأول الدين عن الدولة ورفع وطبق شعار “الدين لله والوطن للجميع” وإقام علاقات بناءة مع جميع الطوائف والمذاهب والقوميات. وكان يواصل زياراته وخطاباته في جميع أنحاء العراق ناشراً الوعي والروح الوطنية لدى الناس لبناء دولة مدنية تُشكل بوتقة لصهر المكونات السكانية الاثنية والدينية والعشائرية، ودمجها تحت هوية وطنية عراقية عربية جامعة لكل فئات وطبقات وشرائح المجتمع العراقي بعدما كانت قبائل وطوائف شتى تحت سلطة الحكم العثماني لقرون ممتدة.
وسعت سلطة العهد الملكي إلى تنمية آليات الوعي السياسي والاجتماعي وخاصة لدى النخبة المثقفة، وتشجيع قيام الاحزاب والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني. كان الهدف خلق مؤسسات تمثيلية لتعزيز موقف العراق التفاوضي مع السلطة البريطانية المحتلة والإستفادة من تجارب التيارات السياسية والثقافية في الغرب.
وتأسس خلال سلطة العهد الملكي احزاب سياسية ومنظمات اجتماعية وثقافية، وصدرت عشرات الجرائد والمجلات وبُنيت عشرات المدارس والكليات المتوسطة والجامعية والمرافق الصحية.
تحقق استقلال العراق وكان أول دولة عربية تدخل عصبة الامم في عام 1932. وحقق فيصل الأول إنجازات في العلاقات السياسية مع دول الجوار؛ حصل على إقرار من تركيا بعراقية الموصل بصدور قرار من عصبة الامم، وتم عقد اتفاقية مع الجمهورية التركية في عام 1926 بالاعتراف بخط الحدود الفاصل بينهما. وعالج مشاكل الحدود مع السعودية، وحصل على اعتراف ايران بالدولة العراقية والذي تأخر حتى عام 1929 لمطامع لها في أراضي عراقية حول شط العرب.
نكسة على طريق العراق المعاصر: غياب فيصل الأول
توفي الملك فيصل الأول في عام 1933، وكانت وفاته السريعة خسارة جسيمة للعراق. وكتب عميد الادب الدكتور طه حسين أنه سعيد حقا من ظفر بمثل ما ظفر به فيصل من حب الشعوب. وقال المؤرخ أمين الريحاني كان فيصل الأول يؤثر الرأي على الشجاعة، والنصر يبدأ بالإدارة والتدبير.
عمل فيصل الأول على أعمار العراق وبناء دولة مدنية وحياة برلمانية وحزبية تنفتح على الحداثة الغربية. ورغم التخلف والانقسامات القومية والدينية والمذهبية والقبلية والصعوبات والمعوقات التي كانت تضعها السلطة المحتلة، فقد كانت توجهات عهده علامة فارقة في تاريخ العراق الحديث. وقال المؤرخ علاء نورس أن تاريخ العراق المعاصر هو تاريخ الملك فيصل بكل أحداثه وتطوراته.
وربما لو طال به العمر لكان بالامكان تجنب كثير من الأحداث السلبية التي مر بها العراق في العقدين التاليين لوفاته، والتي خلقت ظروفاً شكلت دافعاً وحافزاً لحركة الضباط في عام 1958.
لم تستطع النخبة السياسية التي تكونت من العسكريين القدامى والمثقفين مواصلة انتهاج كثير من افكار وسياسة الملك فيصل وتحقيق مشروعه، في عهدي الملك غازي وفيصل الأول.
جاء للعرش الملك غازي (1933 – 1939) الشاب المتحمس وصاحب الطموحات القومية الكبيرة، الأمر الذي ساعده على تشكيل مجموعات سياسية يغلب عليها الطابع القومي. لم يكن لغازي حكمة وخبرة والده، وانتهى الأمر به بحادث سيارة، رأى كثيرون أنه كان اغتيالاً سياسياً. وخلفه الملك فيصل الثاني، الذي ظل تحت وصاية خالة الأمير عبدالإله حتى عام 1953.
كان من إنجازات الملك غازي البدأ في تداول عملة نقدية عراقية بدلا من الروبية الهندية والتي صدرت في عام 1932 قبيل وفاة فيصل الأول، وافتتاح إذاعة عراقية ومطار في البصرة وافتتاح لسدة الكوت في عام 1939.
وقد شهد العراق في العهد الملكي بدايات جادة لتقدم اقتصادي واجتماعي وتقني، غير أن التغير الإجتماعي في هذا المجالات لم يكن متوازياً بين الجانبين التقني الإقتصادي والجانب الإجتماعي أو شاملاً لطبقات ومكونات المجتمع العراقي. فقد جرى تبني كثير من التغيرات في عناصر الثقافة العراقية المادية مثل أساليب الإنتاج وأدوات الزراعة وأدوات الطعام والملابس، بشكل أسرع وأبعد من عناصر الثقافة غير المادية مثل العادات والتقاليد والقيم والمعايير وأساليب التفكير.
كان التغير في الجانب المادي في عناصر الثقافة أبعد وأعمق من التغير في عنصر الثقافة غير المادية، وهو ما يسمى بالفجوة الثقافية. ولم تكن الفجوة الثقافية متماثلة بين فئات وطبقات المجتمع اجتماعياً وجغرافياً.
أفرز التغير الإجتماعي فئات محافظة تتمسك بالقديم وبالقيم التقليدية والتراتبية الإجتماعية القبلية والعقلية الأبوية وخلط السياسة بالدين، وأخرى ليبرالية متحررة منفتحة على الحضارة الغربية وبالمجتمع المدني وقيم الحداثة والتحضر.
وأدى تخلف أساليب وعلاقات الانتاج الزراعي والصناعي في الريف والبادية إلى نزوح الكثيرين الى المدن التي بدأت في التشكل وتشهد تطوراً اقتصادياً، وأصبحوا يشكلون غالبية سكان المدن الكبيرة بغداد والموصل والبصرة.
وبسبب الأصول الريفية والقيم العشائرية لسكان الحضر، كانت كل جماعة تٌدين بالولاء للقبيلة والعشيرة والطائفة وفقاً لدرجة تطورها الاجتماعي والثقافي ودورها ووظيفتها وحضورها في الحياة العامة. وتغلب الولاء للقبيلة بقيمها وأعرافها العشائرية وعقليتها الأبوية، المترسخة في المجتمع العربي، ثم الولاء للطائفة والمذهب على الولاء للدولة والوطن الجامع.
وبالرغم من جهود الدولة لإرساء أركان الدولة الحديثة وتعزيز سلطة العهد الملكي، إلا أنها لم تتمتع بحكمة ترقى لحُكم فيصل الأول لتشكيل هوية وطنية جامعة توحد جميع العراقيين تحت راية عراقية واحدة.
وكان من شأن تنامي المشاعر السلبية في الجيش العراقي لسلوكيات بعض اركان العهد، أن أدت إلى حركة بكر صدقي في عام 1936، ثم حركة رشيد الكيلاني في عام 1941. ولم تستطع السلطة الحاكمة ان تتغلب على مشاعر الإنتقام بعد حركة الكيلاني، ولم تتوفر لديها الحكمة السياسية لإمتصاص الغضب من صدور قيادات في الجيش وأحزاب عراقية.
تلك كانت بذور حركة الضباط التي جاءت في عام 1958 لإزاحة سلطة العهد الملكي الأولى في العراق.
العراق: مؤسسية سلطة العهد الملكي
عُرفت العائلة المالكة بالبساطة التي تتشابه مع الكثير من الأسر العراقية. كما عرفت بنظافة اليد وعدم الخلط بين أموال العائلة والأموال العامة التي تديرها مؤسسات الدولة، ولم يُعرف عن حياتها مظاهر البذخ والترف السائدة في حياة الطبقات الحاكمة.
مات الملك فيصل الأول، وكان سكنه متواضعاً في بناءه وأثاثه، ولم يسكن قصراً، حتى أن صحفياً سأله في عام 1923 عن سبب عدم بناءه قصراً لإقامته في العراق يليق بمقامه، وكان أن أجابه؛ لقد جئت هنا يا بُني لأبني مملكة لا لأبني بلاطاً.
وكان الملك فيصل يقول؛ إني احب ان أرى معملا لنسيج القطن بدلا من دار حكومة، وأريد ان ارى معملا للزجاج بدلا من قصر ملكي.
في نيسان 1934 تم إنجاز قصر الزهور بعد وفاة الملك فيصل الاول وقد بلغت تكاليف بنائه ما يقارب 50 ألف دينار . وكان القصر يضم الديوان الملكي ودوائر للأمناء ، والتشريفات، ومكاتب للمرافقين إضافة إلى مكتبة لاستخدام الملك والعاملين في القصر، ودائرة مالية لإدارة ميزانية البلاط الملكي السنوية المتواضعة جدا وفق قواعد المالية العامة المطبقة في دوائر الدولة الاخرى. وعندما كانت سلطة القصر تطلب تخصيصات جديدة، كثيراً ما كانت وزارة المالية أو مجلس الوزراء ترفض الطلب، وحتى لتخصيص مبلغ إضافي للملك لسد نفقات علاجه في الخارج.
وكان قصر الرحاب هو القصر الملكي الثاني بعد قصر الزهور. وقد تم بنائه على نفقة العائلة المالكة غرب العاصمة العراقية بغداد قرب ضاحية المنصور وعلى طريق قصر الزهور، وتم الإنتهاء من بناءه في عام 1937م. بدأ بناء القصر بسبعة غرف، ثم جرى لاحقاً توسيعه لطابقين تضم 11 غرفة ، تشمل غرفة مكتبة. ولم تتوفر أجهزة تبريد مركزية في القصر رغم مناخ بغداد القاسي صيفاً، وكان هناك مكيفاً لغرفة واحدة. وطلبت العائلة من بلدية بغداد تبليط أجزاء من حديقة القصر، لكن البلدية رفضت طلبها لأن القصر ملكية خاصة.
كان فيصل الأول يبدأ نهاره باكراً ويتناول إفطار بسيطا من الجبن والشاي. وكان يبدأ العمل في السابعة صباحاً ويتابع أدق تفاصيل الملفات المقدمة إليه، ويتابع صحف عراقية وخلاصات صحف عربية وأوسطية وغربية ويستقبل رجال الدولة ومواطنين. وكان يتناول غدائه أو الشاي مع رجال الحكومة او الشعب للبحث في الموضوعات المهمة، ويقضي نهاره في العمل كمثال حي للموظف العام المُجد والمُخلص الذي يجمع صفات القيادة ورجل الدولة.
كان نوري السعيد رئيساً للوزراء لأربعة عشر مرة (1930-1958) في عهد الملوك الثلاثة في الحكم الملكي (1921-1958).
ورغم كل ما يقال عنه، وكثير مما قيل كان صحيحاً عن ما اقترفه بحق المشاركين في حركات انقلابية والشيوعيين، والمغالاة الشديدة في تطبيق سلطة القانون والنظام،
إلا أنه كان رجل دولة. كان نوري السعيد يٌدير دولة مؤسسات يحكمها دستور وبرلمان منتخب ومجلس شيوخ وجيش وطني. وترأس مجلس الإعمار كرئيس للوزراء وقد أقام بنية تعليمية وصحية ومشاريع ري وجسور ومرافق كهرباء وبنية قضائية، وأسهم في توحيد العراق شعباً وأرضاً ومياها، لكل أبناء العراق مهما كانت طوائفه أو قومياتهم أو مذاهبهم، و لم يمنح أي جهة أجنبية أو الغرب الذي كان يُتهم بالعمالة له أي مصالح أو منافع أقتصادية على حساب العراق. كان راتبه 150 ديناراً، ولم يكن لديه أي عقارات داخل العراق أو خارجه وكان له منزل على نهر دجلة، ولم يسجل عليه أو أسرته أو الأسرة المالكة أي تجاوزات مالية على خزينة الدولة المركزية لا في حياتهم ولا بعد مماتهم.
إنجازات العهد الملكي؛ 1921 – 1958
عانت بغداد ومدن العراق من التخلف والجوع والمرض، وغياب البنية التحتية المادية والإجتماعية قبل العهد الملكي. ولم يكن في بغداد سوى جسور عائمة على نهردجلة، لا تتحمل مواسم الفيضان، وسدود ترابية، ومستشفى صغير يسمى المجيدية والقشلة وقصر الوالي (السراي).
ثم جاء العهد الملكي، وحكم العراق 37 عاماً (1921–1958). وحاولت السلطة الناشئة خلال هذه الفترة بناء عراق جديد. ورغم قلة الموارد المالية، فقد نجحت في القيام بالكثير من المشاريع الحيوية في مجالات التعليم وبناء الجسور والسدود.
ومع توفر الموارد النفطية في أواسط الأربعينات، ودخول شركات النفط في اتفاقيات المناصفة في عهد رئيس الوزراء نوري السعيد، وما نتج عن ذلك من ارتفاع كبير في ايرادات النفط، فقد تم انشاء مجلس الاعمار في عام 1950 الذي كان يترأسه نوري السعيد وبدأ التوسع في تنفيذ المشاريع.
استهدف مجلس الإعمار النهوض بالواقع العمراني الإقتصادي والصناعي والزراعي وتوفير فرص العمل للمواطنين. وشملت انجازات المجلس مشاريع إنمائية في جميع محافظات العراق . وكانت خمسينيات القرن العشرين حافلة بالإنجازات الحضارية الاقتصادية والتعليمية. وكانت مشاريع الإعمار والبناء وتطوير الإقتصاد العراقي جارية بنشاط كبير، مما أعطى العراق مكانة دولية على مستوى السياسة الخارجية.
شملت المشاريع الإنمائية مشروع سد الثرثار وسدة الرمادي وبحيرة الحبانية ومشروعي سد دوكان وسد دربندخان وجسري الحلة والهندية وجسور في بغداد والموصل ومختلف مدن العراق ومعامل ومصانع غذائية والأسمنت والنسيج والنفط والغاز ومحطات للطاقة الكهربائية وإنشاء الطرق البرية (مثل طريق الحلة إلى الكوفة والنجف) وسكك الحديد، ومشاريع الإسكان لإنشاء ربع مليون شقة بحلول عام 1960.
وقد ظهرت في العراق في العهد الملكي حركات ومذاهب وتيارات ريادية في مجال الأدب والثقافة والفنونتؤسس لبناء مجتمع مدني. كان الهدف تحقيق التعددية وتعميق روح المواطنة وبث روح التسامح والمساواة بين الناس، باعتبار أن العراق مهد اقدم الحضارات الانسانية والتراث العربي-الاسلامي العقلاني الذي ازدهر في العصر الوسيط على ايدي علماء الكلام والفلاسفة العقلانيين. كان العراق يمتلك ثروة نفطية كبيرة ومياه وافرة واراضي زراعية واسعة، وثروة سكانية ذات جذور حضارية ممتدة. وكان من شأن هذه كله أن يقود إلى نظام ديمقراطي في مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب والقوميات.
إنجازات العهد الملكي في التعليم العالي
كان هناك توسع كبير في المدارس في جميع أنحاء العراق، باعتبار أن التعليم هو حجر الزاوية في نهوض العراق الذي كانت نسبة الأمية فيه تصل إلى 99%. كان هناك تزايد كبير في أعداد الطلبة، وتم إنشاء دار للمعلمين 1923 ومعاهد عالية للفنون البيتية 1932 وللفنون الجميلة 1936 ومعهد الملكة عالية للبنات 1945 ومعهد الهندسة الصناعية 1950 ومعهد التربية البدنية 1954 .
تأسست أول كلية للحقوق في العراق في عام 1908، وشكل الملك فيصل بعد توليه حكم العراق في عام 1922 لجنة تأسيسية لأول جامعة في العراق وهي جامعة آل البيت. وضمت الجامعة كلية الحقوق وكليات الدين والطب والهندسة، والآداب والفنون في الأعظمية بشمال بغداد. وكان منهج هذه الجامعة يدعم فكر فيصل الأول في بناء هوية وطنية جامعة، حيث جمعت المواد الدراسية بين الفقه الحنفي والفقه الجعفري وتاريخ الأديان والعلوم الفلسفية وعلوم الحياة. لكن الجامعة تعثرت وصدر في 1930 قرارا بإغلاقها وتحويل مبناها إلى مقر للبرلمان.
انفصلت كلية الحقوق عن جامعة آل البيت بعد فشل مشروع الجامعة . وقد خرجت كلية الحقوق جيلاً هاماً، كان له دور كبير في تاريخ حُكم العراق. وتداول على عمادة الكلية شخصيات فكرية وسياسية مثل ساطع الحصري (من سوريا) وتوفيق السويدي وعبد الرحمن البزاز وعبد الرزق السنهوري (من مصر).
تم إنشاء كلية للطب في عام 1927 وكلية التجارة والإقتصاد 1936 وللصيدلة 1938 والكلية التوجيهية في الأعظمية في عام 1948 لإعداد وتأهيل الطلبة لدخول الجامعات (وخاصة اللغة الإنكليزية).
كما تم إنشاء كليات الآداب والعلوم 1949 والزراعة 1950 وطب الأسنان 1953 والطب البيطري 1955. كان الهدف من تأسيس الكليات أن تكون نواة لكليات جامعية، وهو الأمر الذي توج بتأسيس جامعة بغداد. وتمت زيادة كمية ونوعية طلبة البعثات من العراق للدول الأجنبية تحت نفقة الحكومة لتعزيز كوادر الكليات التدريسية.
تأسست جامعة بغداد في عام 1957، وضمت كليات الهندسة والطب والصيدلة والزراعة والطب البيطري والحقوق والآداب والتربية والتجارة، وألحق بها المعاهد العالية للعلوم الإدارية واللغات والمساحة والهندسة الصناعية والتربية البدنية. وفتحت جامعة بغداد فروعاً لمعظم كلياتها في الموصل والبصرة شكلت فيما بعد، نواة لجامعة لكل منهما في عام 1967. ويعكس هذا التطور عمق رؤية وحكمة أصحاب القرار السياسي والتعليمي في تطوير التعليم العالي.
وقد احتلت جامعة بغداد المركز 17 بين أفضل 122 جامعة عربية حسب تصنيف QS لعام 2019 العربي،وجاءت في الفئة 651-700 حسب تصنيف QS لعام 2019 العالمي. واحتلت جامعة بغداد المركز رقم 20 بين الجامعات العربية ورقم 821 من بين 1258 جامعة عالمية لعام 2019 وفق تصنيف التايمز العالمي.
إنجازات العهد الملكي في الجسور والسدود
أهتم العهد الملكي بشق الطرق وإقامة الجسور في بغداد (وفق اتحاد المقاولين العراقيين) على نهر دجلة، نظرأ لأهمية البنية التحتية في عملية التنمية الشاملة، وكانت الجسور التى أقامها العهد الملكي أول الجسور الثابتة المقامة على النهرين. وتم استكمال إنجاز بعض مشاريع الجسور والسدود مثل سد إسكي في الموصل وسد بخمة على الزاب الكبير بعد عام 1958.
بدأ مجلس الاعمار في العهد الملكي في إقامة الجسور في عام 1939 الذي شهد إنشاء جسر المأمون (جسر الشهداء) للربط بين شارعي حيفا والرشيد. وأقيم جسر فيصل الاول (جسر الأحرار) في عام 1941 بجانب جسر مود الحديدي للربط بين الصالحية والرصافة. وأقيمت ثلاثة جسور عائمة، وهي جسر الاعظمية وجسر الكرادة وجسر ثالث مقابل شارع المتنبي.
وأقيم جسر الصرافية (الجسر الحديدي) المشترك للسيارات والقطارات في عام 1951. وبدأ بتنفيذ جسر بغداد المعلق (الثاني في العراق) في عام 1956، وأنجز في عام 1964 وسمي بجسر 14 تموز.
وأقيم في عام 1957 جسرالملكة عالية ( الجمهورية) للربط بين ساحة التحرير في مركز بغداد بمنطقة الكرخ وافتتحه الملك فيصل الثاني، وكذلك جسر الائمة في نفس العام للربط بين الاعظمية والكاظمية. وأقيم جسر السماوة المعلق في عام 1958 ، وهو أول جسر معلق في العراق.
شرعت الدولة في إقامة السدود على النهرين لأهميتها في وقف الفيضانات التي كانت تجتاح بغداد بصورة متكررة لغياب السدود في تركيا وإيران والعراق، وللإستفادة منها لأغراض التنمية الزراعية.
وتم إنشاء سدة الكوت في عام 1939 على نهر دجلة وسدة الرمادي في عام 1955 على نهر الفرات، وهي حواجز إنشائية على امتداد عرض النهر لحجز المياه بقدر ارتفاع السدة. كما أنشأت بحيرة الحبانية في عام 1956 وسد الثرثار وسعته 85 مليار م3 على نهر الفرات، وسد سامراء (1955) على نهر دجلة ونواظم سامراء والثرثار (1956) وسدي دوكان ودربندخان على نهر دجلة في السليمانية، وتم استكمال إنجازها بعد عام 1958 وتزيد سعتهما عن 11 مليار م3.
إنجازات العهد الملكي الثقافية والاقتصادية
شهد عام 1956 افتتاح تلفزيون العراق، وكان أول محطة تلفزيونية في الوطن العربي، وتلتها الجزائر في عهد سلطة الإحتلال الفرنسي في نهاية نفس العام، ثم مصر في عام 1959. ووضع الملك فيصل الثاني حجر الأساس للمتحف العراقي الجديد في منطقة الصالحية في عام 1957.
وكان هناك اهتمام بالزراعة والصناعة، وتضمن ذلك تشجيع انشاء تعاونيات وشركات زراعية ومصرف زراعي والاهتمام بمشاريع الري وبزراعة الفواكه والقطن والتبغ ووضع قانون لتثبيت ملكية الاراضي. وبُذلت جهود حثيثة لانشاء وحماية الصناعة الوطنية ، وتدريب كوادر صناعية في الخارج وإنشاء عدد كبير من الصناعات الوطنية تضمن معامل ومصانع للألبان والأسمنت والسكر والنسيج والنفط والغاز ومحطات للطاقة الكهربائية .
بدأ إنشاء خط سكة الحديد في العهد العثماني في عام 1912. وحتى عام 1920 كان هناك خطين سكة حديد ضيقة من البصرة إلى السماوة والحلة وبغداد ومن البصرة إلى العمارة، وخطين من بغداد إلى الكوت وإلى سامراء (وهو خط تم إنشاءه في عام 2014).
في سنة 1924 انتقلت ادارة السكك الحديد الى حكومة العراق والملكية في عام 1936. وجرى تسيير أول قطار بين بغداد وكركوك في عام 1925، وبين بغداد والموصل ثم اسطنبول في عام 1940وهو قطار الشرق السريع وكان يمر في محطات في أوروبا وينتهي في لندن. وتميز قطار الشرق بدقة مواعيد الرحلات والخدمة والنظافة العالية وحُسن هندام العاملين.
وفي عام 1953 أصبحت ادارة السكك مصلحة مستقلة، ويتبعها 17 ورشة صيانة ويعمل بها أكثر من 21 ألف موظف وعامل. وفي عام 1948 تم إنجاز مبنى المحطة العالمية للسكك الحديد في بغداد المماثلة لمحطة لندن.
العراق الحديث: في انتظار تجديد المسيرة
أخرجت حركة الضباط في عام 1958 العراق عن مسار تطوره الديمقراطي الطبيعي الذي بدأ بقيام الدولة الجديدة عام 1921، لتضعه على مسار مجهول يفتقر إلى تخطيط بعيد المدى، وهو ما يحتاجه بناء أي دولة تسعى لأن يكون لها مكاناً بين الدول الحديثة الناجحة.
وقد عملت سلطة العهد الملكي 1921-1958، على دمج القبائل والعشائر والطوائف في المجتمع المدني وتطوير طبقة وُسطى مُتنورة تقود عملية التحديث والتقدم. وغابت المحاصصة الطائفية والقومية والمذهبية عن المناصب القيادية في الدولة في رئاسة الوزراء وقيادات الجيش والوزارات السيادية، والتي لا مكان لها في الدولة الحديثة؛ دولة سلطة القانون والمواطنة.
ويشهد العراق منذ عام 1958، تدهوراً مستمراً في البنية الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، وتمزيقاً لنسيجه الاجتماعي، ومعاناة إنسانية كبيرة حسب تقرير لوكالة التعاون الدولي السويدية في نوفمبر 2018.
وقد وجدت السلطات التي سادت العراق في العقود الستة الماضية، أن تثبيت سلطتها يتطلب دمج القبيلة بالمؤسسة العسكرية مناطقياً أو سياسياً أو بالمؤسسة الدينية طائفياً ومذهبياً لتكوين قاعدة إسناد لأجهزة الدولة على حساب الدولة البرلمانية التقليدية والمنظمات المدنية.
واكتسب الأخذ بنمط محدد من الممارسة الدينية أو المذهبية بمرور الوقت، وتصعيد الطقوس الدينية الى مستوى العقيدة لتنزيهها عن النقد، بُعداً اجتماعياً وسياسياً، يستخدم فيه الولاء الطائفي أداة للالتفاف على حقوق المواطنة وتكافؤ الفرص الذي يشكل قاعدة الروابط والعلاقات بين مكونات المجتمعات التعددية في دولة القانون والمواطنة.
ووقع العراق الضعيف داخلياً ، ضحية لعصابات إرهابية إجرامية محلية وخارجية ولتدخلات خارجية جامحة، غيبت قدرته على خلق قيادات قادرة على إدارة دولة في إطار سلطة القانون ومبادىء الحوكمة والمساءلة والشفافية.
وأصبحت مدن العراق، الدولة النفطية الغنية، تعاني من ضعف شديد في المرافق العامة الإجتماعية والمادية في مجالات التعليم والصحة والكهرباء والمياه، تعج بها صفحات التواصل الإجتماعي، وتستصرخ ضمير كل عراقي وعربي غيور.
وبحسب تقرير منظمة الشفافية العالمية لعام 2018، يعتبر العراق أحد البلدان المتأخرة على المقياس في العالم، إذ يحتل المركز 166 في قائمة من 176 دولة .
وأظهرت الظروف أنه لا يمكن حكم العراق من قيادات عسكرية غير مؤهلة لأي مشروع تنموي أو إقتصادي أو من أحزاب مذهبية تُحكم من خارج العراق، ولا تمتلك أي برامج سياسية أو اقتصادية.
لم يكن النظام الحاكم في العراق قبل 60 عاماً نظاما مثاليا، لكنه كان نظاما قابلا للتطوير، فالتغير الإجتماعي هو بالتعريف عملية بطيئة وتدريجية وتراكمية.
كان هناك في العراق، قيم تستند إلى التسامح والانفتاح على العالم، لا تقوم على إلغاء الآخر أو تشكك في ولائه. وكان هناك استعانة بأفضل العراقيين لتولي المناصب العامة بغض النظر عن الطائفة أو المذهب أو القومية.
كان العراق، بفضل ما يملكه من ثروات، في مقدّمها ثروة الإنسان، مؤهلا لأن يكون، لو سمح له بالتطور بطريقة طبيعية بعيدا عن الشعارات الزائفة، أحد النمور الاقتصادية في المنطقة .
لقد كان العراق أول من وضع قواعد دولة القانون، ويملك اليوم كل أدوات التقدم البشرية والمادية والثروة الطبيعية. ويملك العراق رصيداً كبيرا من العلماء في الخارج وفي الداخل. وهؤلاء وهؤلاء سيجندون كل إمكانياتهم للنهوض بالعراق، عندما تتوفر إرادة سياسية جامعة بأن العراق وطن الجميع أيا كانت قومياتهم أو طوائفهم أو مذاهبهم؛ عودة للهوية الوطنية العراقية وروح المواطنة وبناء دولة القانون قولاً وفعلاً.
ولا شك بأن الشمس ستشرق يوماً على أرض العراق، وكثيرون يرونه بعيداً، ولكن أرض الحضارة الضاربة في القِدَمْ، تنبىء بأننا سنراه قريباً، وستشرق الشمس بأبناءها. وستنهض بغداد، ليس ضد أحد، ومن من أجل عراق واحد أحد، تعددي ومدني وديموقراطي.
المصادر